سوسن دروزة وذاكرة الجسد: عندما يصبح المسرح وثيقة
08-07-2025 01:31 AM
عمون - في عرض “ذاكرة عميقة”، لا تبدأ الحكاية من سردٍ واضح، بل من تفككٍ دلالي يرسم وجعًا متقطعًا. العرض، الذي هو ثمرة ورشة “المسرح كملجأ”، يتجاوز الطرح الوثائقي التقليدي ليعيد التفكير في العلاقة بين الأداء والتوثيق، بين الصوت الفردي والذاكرة الجماعية، بين الغياب والحضور.
سوسن دروزة لا تُخرج العرض كما يُخرج غيرها. لا تصنع مشهدًا، بل تصنع حقلًا معرفيًا بصريًا. رؤيتها تتجاوز التكوين الجمالي إلى بناء سردية بصرية قادرة على استدعاء الجرح دون إعادة تعليبه. هي لا تضع الممثلة في مركز العرض فقط، بل تضعنا نحن داخل السؤال: من يرى؟ ومن يُرى؟ وكيف تُصاغ الذاكرة عندما تصبح الوثيقة بديلاً عن الحقيقة؟
وسط فراغ الخشبة، تقف تهاني سليم، بثبات الجذر وهشاشة الصوت. لا تمثل شخصية واحدة، بل تتشظى إلى سلسلة من الذوات. تؤدي دور الجدة، ثم الابنة، ثم الحبيبة، ثم القريبة. تنتقل بين الشخصيات كما لو أنها تمشي على خيوط ذاكرة ممزقة. كل وجه تؤديه لا يحكي حكاية مستقلة، بل يتصل بجذر واحد: المرأة الفلسطينية كحامل دائم للزمن المهدَّد.
ظهور تهاني سليم مرتدية فستانًا أحمر وحذاءً أسود كان قرارًا بصريًا دقيقًا. الأحمر ليس فقط لون الجسد والدم والحب، بل أيضًا لون الإنذار، لون لا يُفلت من العين.
وجود الأحمر وسط مشاهد النزوح ليس نافرًا، بل صادمًا ومقصودًا. هو استعادة للجسد في لحظة محوه، استعادة للحياة في لحظة الانهيار.
أما الحذاء الأسود، فهو ثقيل، أرضي، يشير إلى ثقل الحركة، كأنها تمشي على ذاكرة مليئة بالموت والمنافي. هذا التباين البصري ليس عبثيًا، بل يُشير إلى امرأة تمشي داخل حقل ذاكرة، بين الحياة والموت، بين الجاذبية الأرضية وفكرة الخلاص المستحيلة. الفستان الأحمر الذي ترتديه ليس زينة، بل جرح حي. الأحمر هنا لا يستدر عاطفة، بل يعلن صراعًا.
هو لون الدم، لكنه أيضًا لون البقاء. الأحمر يصرخ دون أن يصدر صوتًا. وفي الخلفية، تفرض الشاشة البيضاء نفسها ليس كخلفية تقنية، بل كجغرافيا رمزية. إنها الحائط الذي نُسقط عليه ما لم يعد يُرى: فيديوهات النزوح، مشاهد الفقر، صمت الخيام، وخراب البيوت. الأبيض هنا هو ما بعد الألوان. هو لون اللاعودة.
الوجه بدا هادئًا، بمكياج خفيف، لا يحمل علامات تعب، رغم أن القصص مثقلة بالحرب والنزوح. هذا التناقض مقصود، لا تجميلًا، بل استراتيجية بصرية.
المكياج يصبح درعًا يحجب الانهيار، لا يجمّل الحزن، بل يضبطه. الوجه لا يعكس المأساة، بل يقاومها. الحزن يُقال لا يُمثَّل. الانفعال يظهر في الصوت والحركة، لا في ملامح مهدَّمة.
سيميائيًا، هذا الوجه الممسوك يشكّل مفارقة قوية: جسد متماسك في واقع منهار، ملامح حية وسط قصص محو هوية لم تُطمس رغم كل فقد. المكياج هنا ليس زينة، بل إعلان بقاء، وصمت أثقل من التعب.
لا شيء يُترك للصدفة. البرتقالة الموضوعة فوق الكرسي لا تتحرك. حضورها، رغم صمته، يفرض ثقل المعنى. ليست شيئًا من يوميات الغرفة، بل أثر. رمز لفلسطين التي تظل في الزاوية، غير قابلة للمحو. كما الماء، الذي ترشه البطلة في مواضع متفرقة. رش الماء ليس تكرارًا عشوائيًا، بل طقس مقاومة. محاولة لتمييز ما هو آدمي وسط هذا الطوفان من الرماد. هو فعل إعادة توزيع الذاكرة على الخشبة.
الكرسي في العرض لم يكن للجلوس، بل لحظة كشف. كل صعود عليه يرافقه قول، وكل نزول عودة للصمت. الارتفاع المؤقت يمنح الجسد مساحة للبوح، كأن الحقيقة تحتاج مسافة لتُقال.
سيميائيًا، الكرسي يتحول إلى منصة اعتراف. لا يُستخدم إلا عندما يصبح الكلام ضروريًا. هو فعل بصريّ يكسر الإيقاع، يعلن أن ما سيقال يخص الذات، لا النص. الكرسي ليس أداة راحة، بل إعلان موقف.
الحجارة التي تنثرها الممثلة تُستخدم لرسم مناطق آمنة، لكنها تنهار فورًا تحت ثقل الفكرة. في غزة لا مناطق آمنة. هذا ما يقوله النص دون أن ينطقه. الحجارة، التي كانت يومًا وسيلة بناء، تتحول هنا إلى رموز لتحديد الفراغ. العرض يفكك مفاهيم الأمان، والانتماء، والبيت، ويعيد تركيبها في سياق شديد المراوغة.
مشهد الانتقال من البيت إلى الخيمة لا يُعرض بوصفه انزلاقًا دراميًا، بل كتحول في المفهوم نفسه. الخيمة تصبح بيتًا حين تُغلق الأبواب كلها. هذا التحول يُعرّي النظام العالمي، ويضعنا أمام حقيقة تُخيف: متى يتحول ما هو طارئ إلى ما هو دائم؟
“ذاكرة عميقة” ليست فقط إعادة تمثيل لحكاية فرح، الفتاة التي وثقت نزوحها، بل استدعاء لأسئلة كبرى عن التمثيل، والسلطة، والهوية. تتقاطع التجربة مع أطروحات إدوارد سعيد في نقد التمثيل، ومع اشتغال درويش على مفهوم الوطن المتناثر داخل اللغة. لكن العرض لا يستعير أصواتًا سابقة، هو يخلق نَفَسَه الخاص.
الصوت، الصورة، الحركة، الصمت، كلها عناصر تعمل بتقشف دلالي لصالح المعنى. العرض لا يستعرض عضلاته التقنية، بل يحفر في البنية العميقة للوجدان. تهاني سليم لا تؤدي، بل تكشف. لا تمثل، بل تقف عارية في مواجهة الأسئلة. وسوسن دروزة، بموقفها الإخراجي شديد الدقة، لا تدير الخشبة فقط، بل تكتب عبرها.
وكان السؤال: هل يمكن للمسرح أن يحمل عبء التوثيق؟ نعم، حين تُصبح الصورة التي تمر على الشاشة جزءًا من أرشيف شخصي وجمعي، وحين يتقاطع الجسد الحي على الخشبة مع الجسد الغائب في الصورة، نكون أمام وثيقة. لا مكتوبة بالحبر، بل بالأداء.
في ‘ذاكرة عميقة’ لا نرى الجرح، بل نرى كيف يُصاغ، كيف يُنظّم، كيف يُعرض علينا بوصفه مادة بصرية. الجسد لا يطلب تعاطفًا، بل، يضعنا أمام مسؤوليتنا: أن نُدرك كيف تصبح الذاكرة ساحة صراع، وكيف يتحوّل الأداء إلى مقاومة ضد النسيان المفروض.
شكرًا سوسن دروزة. عرض متعب، لأنه لا يمنحك المسافة الآمنة. يُقحمك في المادة، في الذاكرة، في الجسد. لا يترك لك خيار المشاهدة، بل يفرض عليك المشاركة. د: مارغو حداد