في حضرة الصراخ والعتمة: حين يستنسخ القطيع وجوهه
د. نعيم الملكاوي
12-07-2025 12:33 PM
في ركنٍ معتمٍ من ذاكرة البلاد، يقف شيخٌ أشيبُ الشعر جهوري الصوت، منتصباً كجذع شجرةٍ ضربتها الرياح ألف مرة ولم تنكسر مع بعض من الانحناء طال شموخه.
يصرخُ في وجوهٍ مستنسخة، متشابهةٍ الى حدّ الرتابة، كأنها أُنتجت من قالبٍ واحد، ثم أُعيد صبّها في قوالب أخرى ليكتمل مشهد القطيع البشري الذي لا يتكاثر إلا على صورة الأصل.
حال قوله ما عجزت عنه خُطب السياسيين وتقارير المراقبين الدوليين. لا تحتاج إلى تعليقٍ طويلٍ لتدرك أن الأصوات الحرة اليوم تُحاصَر في غرفةٍ صغيرةٍ باردةٍ لا يدخلها ضوء . هناك يقف الميكروفون وحيداً ، أداةً حياديةً بلا ضمير ، ينقل صرخة الشيخ الغاضب إلى قاعةٍ فارغة ، أو ربما إلى عقولٍ صمّاء اختارت ألّا تسمع .
في تفاصيل الرسم ما يكفي لكتابة تاريخٍ موجزٍ لمجتمعاتٍ أتقنت صناعة النسخ البشرية: ثلاثة رجالٍ بربطات عنقٍ حمراء يجسدون فريقاً من المصالح المشتركة ، ينظرون إلى الشيخ بملامح متبلدة ، يتظاهرون بالإنصات عقولهم صماء . أيديهم معقودةٌ بإحكام ، كأنها تقبض على أسرارٍ لن يبوحوا بها لاحد ، أو ذنوبٍ لن يعترفوا بها لقاضي . إنهم يشبهون بعضهم حدّ العمى ، فلا تعرف مَن فيهم الفاسد ومَن فيهم الأكثر فساداً ومن فيهم من يرعى الفساد .
يظل إصبع الشيخ المرفوع علامة تعجبٍ عالقةٍ في الهواء ، يلوّح بها كتذكارٍ قديمٍ من زمنٍ كان فيه للصوت معنى ، وللمواجهة هدف وللحضور مكانته . لكن ، مَن الذي يسمع صوتاً وحيداً في زمنٍ تحكمه جوقةُ الصمت والتماهي ؟
وكيف لأصابعٍ مرتعشة أن تهدم جداراً شُيّد من الوجوه المكررة والضمائر المعلّبة والمصالح المشتركة ؟
هذا ما يُعلّمنا إياه الرسم أن الفساد ليس دوماً قراراً فردياً ، بل قد يتحوّل إلى نمطٍ جمعيٍ كامل
وبيروقراطيةٌ عمياء ، تفرخ مسؤولين متشابهين كالدُمى ، يكرّرون الأكاذيب نفسها ويُسمّونها سياسة ودبلوماسيا .
كياناتٌ تصنع القطيع ، ثم تخشى أن يتمرد عليها في ظلال مرياعها الأعمى فتعود لتأكلها كجاهلية هُبل .
أصواتٌ حرةٌ تُقصى ، لتبقى للمنبر ميكروفوناتٌ بلا صوت ، ونداءاتٌ بلا صدى .
وحده الشيخ – أيّاً كان اسمه – يُدرك أن صوته سيضيع في ظلمات الصمت ودهاليز الفساد ، لكنه يبقى يصرخ لأن الصمت جريمةٌ أكبر .
يصرخ لأن الصراخ آخر ما تبقّى له من معنى وكرامة . يصرخ لأن التاريخ يُكتب دائماً بدماء المتمرّدين لا بصمت المستنسخين .
ربما سيرسم الفنّان يوماً ما كاريكاتيراً آخر : شيخاً بلا إصبعٍ مرفوع ، أو جمهوراً بلا وجوهٍ مستنسخة او كراسي فارغة لا تجد من يحتلها .
حتى ذلك الحين ، ستظلّ هذه الصورة شهادةً حيّةً على زمنٍ قرّر فيه القطيع أن يستنسخ نفسه ، وأن يُذبح العقل الحرّ كلّما رفع إصبعه في وجه العتمة بصوته المبحوح .