ذكاء اصطناعي سيادي: هل يتحرر الأردن من التبعية الرقمية؟
عيسى الحلبي
15-07-2025 11:00 AM
وسط موجة التحولات الرقمية والسياسية التي تعيد تشكيل العالم، لم تعد السيادة الوطنية محصورة بالحدود الجغرافية أو الموارد الطبيعية، بل امتدت لتشمل السيادة الرقمية، تلك القدرة التي تتيح للدول حماية بياناتها والتحكم بتقنياتها وبناء أنظمتها الذكية باستقلال تام. ومن هذا المنطلق، يبرز مفهوم "الذكاء الاصطناعي السيادي" كخيار استراتيجي تسعى من خلاله الدول إلى التحرر من التبعية التقنية والهيمنة الرقمية. وفي هذا السياق، يطرح الأردن سؤالاً جوهرياً: هل يستطيع أن يحقق استقلاله الرقمي ويطوّر ذكاءً اصطناعيًا وطنيًا يخدم مصالحه ويعزز أمنه السيبراني؟
الذكاء الاصطناعي السيادي يعني أن تتمكن الدولة من تطوير وتشغيل وصيانة أنظمتها الذكية داخليًا، مع امتلاكها الكامل للبيانات والخوارزميات والبنية التحتية، دون الاعتماد الكلي على شركات خارجية قد تتأثر بسياسات دولية أو تمثل تهديدًا خفيًا للخصوصية والسيادة. إن السيطرة على هذه المنظومة لا تقتصر على التقنية فحسب، بل تشمل أيضًا الأطر التشريعية، وكفاءة العنصر البشري، ومفاهيم الحوكمة الرشيدة.
في الأردن، ورغم محدودية الموارد، بدأت تتشكل ملامح وعي وطني بأهمية هذا النوع من الاستقلال. فقد أطلقت الحكومة الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي عام 2020، مستهدفة دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في قطاعات متعددة مثل التعليم والصحة والطاقة، وتوفير بيئة حاضنة للابتكار المحلي. كما تم تطوير عدد من مراكز البيانات الوطنية التي تهدف إلى استضافة البيانات الحكومية داخل البلاد، وهو تطور مهم في سياق تقليل الاعتماد على الحوسبة السحابية الأجنبية.
شهدت بعض المؤسسات الأردنية أيضًا خطوات أولية في استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض تحليل البيانات وتتبع الأداء، كما ظهرت مبادرات حكومية وشراكات جامعية لتدريب الكوادر وتطوير تطبيقات ذكية محلية. هذه الجهود لا تزال في بدايتها، لكنها تمثل بوادر حقيقية لإطلاق منظومة وطنية قادرة على التنافس إقليميًا إذا ما تم الاستثمار فيها بشكل ممنهج.
مع ذلك، ما يزال الطريق نحو بناء ذكاء اصطناعي سيادي طويلًا ومعقدًا. فهناك تحديات تتمثل في محدودية التمويل المخصص للبحث والتطوير، وهجرة الكفاءات التقنية إلى الخارج، وضعف التشريعات التي تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ضعف الوعي العام والسياسي بخطورة التبعية التقنية. كما أن معظم الأنظمة الذكية المستخدمة اليوم في القطاع العام تعتمد على حلول أجنبية قد لا تتماشى مع الخصوصية الوطنية.
إن النظر إلى الذكاء الاصطناعي كقضية سيادية يغيّر من طبيعة الحوار حول التحول الرقمي. لم يعد الهدف تحسين جودة الخدمات فقط، بل تأمين استقلال القرار الوطني وحماية الخصوصية الرقمية للمجتمع. ويستدعي هذا التحول الشامل في الرؤية بناء منظومة تعليمية تكنولوجية متينة، وخلق بيئة قانونية تحفّز على الابتكار وتحمي الحقوق الرقمية، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في حلول الذكاء الاصطناعي الوطنية، مع تعزيز التعاون بين المؤسسات الحكومية والجامعات ومراكز البحث.
في قطاعات مثل الصحة والتعليم والعدالة، يحمل الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لتقديم خدمات دقيقة وسريعة ومتخصصة، ولكن إن لم تكن هذه الخدمات قائمة على بنية تحتية وطنية خاضعة للرقابة والسيادة، فإنها قد تتحول إلى أدوات لا تخدم المواطن بقدر ما تفتح الأبواب أمام تدخلات خارجية غير معلنة. ولهذا، فإن بناء الثقة في التحول الرقمي يتطلب شفافية في آليات العمل، وقوانين تضمن خصوصية البيانات، وقدرة وطنية على مراجعة وتدقيق أداء الأنظمة الذكية.
يمتلك الأردن طاقات بشرية لافتة وخبرة تراكمية في مجالات الحوكمة والإدارة العامة، ويمكنه تحويل التحدي الرقمي إلى فرصة وطنية، إذا ما تم تحويل الرؤية إلى خطط تنفيذية واقعية مدعومة بالتمويل والتشريع والتعاون المؤسسي. فامتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهًا تقنيًا، بل بات عنصرًا محوريًا في صون السيادة الحديثة.
في عالم تُديره الخوارزميات، وتتحكم فيه البيانات بالقرارات السيادية، من لا يملك أدوات الذكاء قد لا يملك مستقبله. وإن بناء ذكاء اصطناعي سيادي في الأردن ليس مجرد مشروع تكنولوجي، بل مسار وطني يتطلب إرادة سياسية، وتخطيطًا طويل الأمد، واستثمارًا جادًا في الإنسان والمعرفة. فكل خطوة نحو الاستقلال الرقمي، هي خطوة نحو دولة أقوى، أكثر ثقة بذاتها، وأكثر قدرة على حماية مواطنيها في عالم يتغير كل لحظة.
* مستشار وزير المياه لشؤون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات