حين يُفتَن بعض المسؤولين بالخرائط
فراس النعسان
18-07-2025 10:57 AM
لم يكن أفلاطون ليتخيّل أن الميتافيزيقا السياسية ستبلغ هذا الحد من الشعرية ، حين يتحوّل الوطن من ساحة ترابية تُشاهد من على فوق إلى كيان مقدّس لا يُبصر إلا بعد عبور بوابة المنصب. كأن الإنسان العربي بحاجة إلى مصعد وظيفي كي يرى وطنه من ارتفاع مناسب.
في لحظات صدق نادرة – أو فلتات لسان غير محسوبة – يُفاجئنا بعض ممثلي الشعب باعترافات تكشف هشاشة العلاقة مع مفهوم الوطن. اعترافات توحي بأن الجغرافيا لا تُكتشف إلا عبر النافذة المضلّلة لمكتب رسمي، وأن البلاد ليست أكثر من “ساحة” أو “كراج” إلى أن تُضاء فجأة بأنوار المنصب.
كأن الوطن لا يُرى إلا بعد القسم الدستوري. قبله، هو مجرّد تضاريس مبعثرة، لا تختلف كثيراً عن خطوط عشوائية على ورقة مهملة. أما بعد “اللقب”، فتصبح الخريطة مشبعة بالعاطفة، ومزروعة بالمناسبات الوطنية، ومغلّفة بالعبارات الإنشائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
قال هيغل: “الوعي بالحرية لا يتحقق إلا عبر التاريخ”، لكن يبدو أن البعض لا يرى الوطن إلا حين يصرف نثريات السفر، أو حين تُخصّص له مقاعد في الطائرة وفنادق من فئة خمس نجوم. الوطن بالنسبة لهؤلاء، ليس فكرة تُربّى في القلب، بل مكافأة نهاية خدمة… أو ربما بداية نفوذ.
هل يمكن اختصار الوطن في عتبة إدارية؟ هل يكفي أن ترتدي بدلة رسمية لتبصر البلاد؟ فيلسوف مثل كانط كان سيصدم، فالرؤية لديه ليست فقط فعلاً بصرياً، بل عملية عقلية وجدانية معقدة. أما لدى بعض المسؤولين، فهي لا تحتاج سوى بطاقة دخول وابتسامة أمام الكاميرا، ليبدأ “الشعور بالوطن” من الكافتيريا في الطابق الثاني!
لقد تحوّل الوطن عند بعضهم إلى مصطلح مشحون، يُستحضر عند اللزوم، كالمصل في الخطابات. فهو غير مرئي لكنه يسطع فجأة حين تُفتح بوابات السلطة، ويصبح كل حجر في الطريق يستحق قصيدة، وكل شارع يُعاد تسميته باسم التاريخ.
ربما لو سُئل أحدهم قبل الوجاهة عن تعريفه للأردن، لقال: “خط طويل من الإشارات الضوئية ونقاط التفتيش.” أما اليوم، فهو يتحدث عن “رسالة الأمة” و”قدسية التراب” و”روح الدستور”، وكأن الأوطان لا تُحب إلا بعد التقارير والمخصصات.
أيها السادة، الوطن ليس كائناً يظهر فجأة بعد الترقية. الوطن هو ذاك الذي تشعر به حين ترى طفلاً يرتجف على قارعة الطريق، أو حين تقف في طابور الخبز دون أن تتمنى الهجرة. الوطن لا يُرى من خلف النوافذ المعزولة، بل يُبصر من عمق الألم، من صمت الناس في الزحام، من بؤس عامل النظافة الذي لا يعرف اسمه أحد.
أما خارج هذا الإحساس، فإن كل تصريحات الولاء، مهما كانت مرتبة، تبقى كرتونية… لا تصلح إلا للتصفيق.
لقد مرّ نيتشه ذات مرة من أمام “حافلة" الحياة، وقال: “من ينظر طويلاً في الهاوية، فإن الهاوية تنظر إليه.” أما بعض المسؤولين، فلم ينظروا طويلاً… بل اكتفوا بركوب الهاوية، ثم أقسموا أن ما رأوه هو الوطن.