التعليم المهني والتقني: جسر العبور إلى مستقبل تنموي مستدام
أ.د مخلد الطراونة
26-07-2025 12:42 PM
في عالم يتغير بسرعة هائلة، حيث تتصاعد وتيرة التطور التكنولوجي وتتشكل متطلبات سوق العمل بشكل متجدد يومياً، يبرز التعليم المهني والتقني كحجر الزاوية في بناء المجتمعات القادرة على مواكبة هذه التحولات. لقد أدركت العديد من الدول التي حققت قفزات تنموية كبيرة أن سر نجاحها يكمن في الاستثمار الاستراتيجي في هذا القطاع الحيوي، حيث تحولت من مجرد أنظمة تعليمية تقليدية إلى نماذج متكاملة تزاوج بين المعرفة النظرية والمهارات العملية.
تشهد التجارب الدولية الناجحة في هذا المجال، مثل النموذج الألماني في التلمذة الصناعية أو التجربة السنغافورية في ربط المناهج باحتياجات القطاع الصناعي، أن تطوير التعليم المهني والتقني ليس عملية عشوائية، بل يحتاج إلى رؤية واضحة وإرادة سياسية وشراكة حقيقية بين جميع الأطراف المعنية. هذه النماذج تثبت أن التعليم لا يجب أن يكون في برج عاجي منفصل عن واقع سوق العمل، بل يجب أن يكون جسراً يربط بين الطلاب وفرص العمل الحقيقية.
لكن الواقع في العديد من البلدان العربية يختلف إلى حد كبير، حيث لا يزال التعليم المهني والتقني يعاني من تحديات بنيوية عميقة. فالفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل تتسع يوماً بعد يوم، والنظرة المجتمعية الدونية لهذا النوع من التعليم تجعله الخيار الأخير للعديد من الطلاب وأسرهم. هذه المعضلة تتطلب حلولاً غير تقليدية وخارطة طريق واضحة تعيد الاعتبار لهذا القطاع الاستراتيجي.
في هذا السياق، تبرز فكرة عقد "خلوة تقنية" شاملة تجمع بين صانعي القرار والخبراء التربويين ورواد الصناعة كمبادرة عملية يمكن أن تشكل نقطة تحول في مسار تطوير التعليم المهني والتقني. مثل هذه الخلوة يجب أن تنطلق من تشخيص دقيق للتحديات القائمة، وتستلهم أفضل الممارسات الدولية، مع مراعاة الخصوصيات المحلية. الهدف ليس مجرد إصلاحات سطحية، بل إعادة هندسة شاملة للنظام التعليمي المهني ليكون قادراً على إعداد كوادر مؤهلة تلبي احتياجات الثورة الصناعية الرابعة.
جوهر هذه الرؤية التطويرية يقوم على عدة ركائز أساسية: أولاً، إعادة تصميم المناهج لتكون مرنة وقابلة للتطوير المستمر بما يتناسب مع المتغيرات التكنولوجية. ثانياً، بناء شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص تضمن توظيف الخريجين وتطوير البرامج التدريبية. ثالثاً، تغيير الصورة النمطية عن التعليم المهني عبر حملات توعوية ممنهجة تبرز قصص النجاح وتغير الثقافة المجتمعية. رابعاً، تأسيس نظام تقييم ومتابعة مستمرة لضمان جودة المخرجات ومواءمتها لسوق العمل.
إن تطوير التعليم المهني والتقني ليس عملية تقنية بحتة، بل هو مشروع تنموي متكامل يحتاج إلى تضافر جهود جميع الأطراف.
الحكومة مطالبة بتوفير الإطار التشريعي والدعم المالي، والمؤسسات التعليمية مطالبة بمراجعة برامجها التدريبية، والقطاع الخاص مطالب بالمشاركة الفاعلة في التخطيط والتنفيذ، والمجتمع مطالب بتغيير نظرته تجاه هذا النوع من التعليم.
النجاح في هذا المسار لن يتحقق بين ليلة وضحاها، لكن البداية يجب أن تكون الآن. فالعالم من حولنا لا ينتظر، والفرص لا تمنح إلا لمن يكون مستعداً لاغتنامها. إن إعداد جيل من الشباب المؤهلين بالمهارات التقنية والمهنية العالية ليس خياراً، بل هو ضرورة حتمية لضمان مستقبل تنموي مزدهر. فإما أن نكون جزءاً من هذا التحول، أو نجد أنفسنا خارج خريطة التطور العالمي.