من تركيا إلى الأردن: دروس من زيارة وفد الجامعات لتطوير التعليم
أ.د احمد منصور الخصاونة
26-07-2025 01:25 PM
تتجلى اليوم فجوة واضحة وعميقة في منظومة التعليم العالي بين تركيا ومعظم الدول العربية، فجوة تتجاوز الفوارق التقليدية في البنى التحتية أو الميزانيات لتصل إلى جوهر فلسفة إدارة التعليم وجودته، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على مستقبل الأجيال ومستوى التنمية المجتمعية في هذه البلدان. في هذا السياق، شكلت زيارة وفد رفيع المستوى من رؤساء الجامعات الأردنية وهيئة الاعتماد وضمان الجودة، برئاسة وزير التربية والتعليم والتعليم العالي الدكتور عزمي محافظة، إلى تركيا فرصة هامة للاطلاع على التجربة التركية المتميزة في التعليم العالي، والتي أصبحت نموذجًا ناجحًا يُحتذى به في المنطقة.
شهدت خلال هذه الزيارة عن قرب تطور منظومة التعليم العالي في تركيا، وكيف استطاعت البلاد عبر استراتيجيات واضحة وموجهة أن تحوّل قطاع التعليم إلى أداة فاعلة لبناء مجتمع معرفي متقدم، متماشٍ مع متطلبات العصر الحديث. هذه التجربة، التي أتيحت لي الاطلاع عليها بشكل مباشر من خلال عملي كأستاذ زائر في العام 2016 في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة Middle East Technical University، أوضحت لي أن التعليم في تركيا لا يُنظر إليه فقط كخدمة اجتماعية، وإنما كاستثمار استراتيجي في رأس المال البشري.
وقد تجلّى ذلك في توجيه السياسات الحكومية نحو رفع نسب الإنفاق على التعليم إلى مستويات منافسة عالميًا، وتنفيذ مشاريع ضخمة ومبتكرة مثل مشروع "فاتح" الذي دمج التعليم بالتقنية الحديثة، حيث تم تحويل الفصول الدراسية التقليدية إلى بيئات تعليمية رقمية متطورة، مع الاهتمام الجاد بتأهيل الكوادر التدريسية وتطوير المناهج بما ينسجم مع متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
على الجانب الآخر، تختلف الصورة كثيرًا في العالم العربي، حيث لا يزال التعليم يعاني من أوجه قصور متعددة، تبدأ من ضعف الإنفاق نسبيًا، وتمتد إلى مشاكل في التخطيط والتنفيذ، مع سيطرة البيروقراطية وتراجع دور المعلم ليصبح مجرد موظف يؤدّي واجباته دون دعم حقيقي، بينما يجد الطالب نفسه أمام مناهج جامدة لا تلبي طموحه ولا متطلبات سوق العمل المتغيرة. هذا الواقع يجعل الفجوة بين التعليم في تركيا والعالم العربي أكبر بكثير من مجرد الفارق المالي، إذ تكمن في الاختلاف الجوهري في الرؤية والاستراتيجية التي تحكم منظومات التعليم.
تجربتي الشخصية في جامعة الشرق الأوسط التقنية كشفت لي كيف يمكن لجامعة أن تكون مركزًا حيويًا للبحث العلمي والابتكار، وكيف تفتح أبوابها لطلاب من مختلف أنحاء العالم، خاصة من الدول العربية، في بيئة تعليمية محفزة ومحترفة، حيث تلتقي النظريات مع التطبيق العملي، ويتم تشجيع الطالب على التفكير النقدي والبحث المستقل. هذا النموذج لم يأتِ صدفة، بل هو نتاج سياسة تعليمية متقدمة تقوم على الربط الواضح بين التعليم والاقتصاد، وتحفيز التنافسية والتطوير المستمر، وهو ما نفتقده في الكثير من الدول العربية التي تعيش حالة من الركود في منظومة التعليم العالي، مع تدنٍ في الجودة وضعف الكفاءة، وضعف القدرة على استقطاب الطلبة المحليين والدوليين.
ومن المؤسف أن هذه الفجوة الكبيرة لا تزال تتسع، بينما كثير من صناع القرار في العالم العربي يختارون لأنفسهم ولأبنائهم مسارات تعليمية خارجية في الغرب أو في جامعات مثل تلك التي في تركيا، مما يعكس إدراكًا ضمنيًا بفشل المنظومة التعليمية الوطنية وافتقارها للرؤية المستقبلية اللازمة لإحداث التغيير المطلوب. هذا الواقع يدعو إلى ضرورة إعادة النظر الجذرية في السياسات التعليمية العربية، والابتعاد عن السلوكيات التقليدية التي تسير نحو المزيد من البيروقراطية والتكرار، نحو تبني فلسفة تنموية حديثة تجعل من التعليم أداة أساسية لبناء الإنسان وتنمية المجتمع بشكل مستدام.
بناء الإنسان هو السبيل الأمثل لبناء الدولة، وتركيا خير مثال على ذلك، إذ أثبتت أن الاستثمار في التعليم ليس مجرد بند في ميزانية الدولة، بل هو ركيزة استراتيجية تضمن تطور الدولة وقدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية. لذلك، يجب أن تُدرس دروس التجربة التركية بعناية، مع وضع برامج تنفيذية واضحة للتطوير والتحديث في الدول العربية، لضمان عدم ضياع المزيد من الفرص أمام شبابها، ومواكبة التنمية العالمية المتسارعة التي تعتمد بشكل متزايد على المعرفة والتقنية والابتكار.
رغم التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها تركيا، فقد أدركت مبكرًا أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأقصر لبناء دولة متقدمة وقوية. ومن هذا المنطلق، خصصت تركيا نسبة من 4.5% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاع التعليم، وفقًا لبيانات البنك الدولي لعام 2022، وهي نسبة قريبة من المعدلات الأوروبية، ما يعكس جدية التزامها بتطوير التعليم على كافة المستويات. وقد تجلى هذا الالتزام في مشاريع ضخمة مثل "فاتح"، الذي دمج بين التعليم والتقنية، حيث تم تحويل الفصول الدراسية إلى بيئات تعليمية رقمية، مع تأهيل المعلمين وتطوير المناهج وربط التعليم بالتنمية الاقتصادية، مما جعل الجامعات التركية مقصدًا لآلاف الطلاب من مختلف أنحاء العالم، بمن فيهم عدد كبير من الطلاب العرب. كما تسهم برامج مثل "مولانا" في تعزيز التبادل الأكاديمي والثقافي، ما يرسخ مكانة التعليم التركي كمنهج قابل للتطوير والمنافسة العالمية.
في العالم العربي، لا تتجاوز نسبة الإنفاق على التعليم في معظم الدول 2% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تفاوت واضح بين الدول الغنية والدول التي تعاني من أزمات. المشكلة ليست فقط في كمية الموارد، بل في كيفية إدارتها واستغلالها. الكثير من هذه الأموال يُستهلك في أجور ورواتب الموظفين، مع غياب التطوير الحقيقي للمناهج وجودة التعليم، إضافة إلى إنفاق غير مبرر على ورش العمل الشكلية والاجتماعات والاحتفالات الفاخرة، دون تحقيق أثر ملموس على بيئة التعلم أو قدرات الطلاب. وفي ظل غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد، تسيطر البيروقراطية على قطاع التعليم، ما يحول المعلم إلى موظف منهك والطالب إلى تائه بين مناهج جامدة لا تلبي متطلبات سوق العمل.
يزيد من ألم الواقع أن كثيرًا من صناع القرار في العالم العربي، ان الفارق بين تركيا ومعظم الدول العربية لا يتوقف عند حجم الميزانيات، بل يتعداه إلى الفلسفة التي تدير بها منظومة التعليم. تركيا ترى في التعليم استثمارًا استراتيجيًا في رأس المال البشري، أساس النهضة والتقدم، بينما يبقى التعليم في كثير من الدول العربية إجراءً روتينيًا يخضع للبيروقراطية والمصالح، بعيدًا عن التطوير والتنمية.
هذا الاختلاف الفلسفي يجعل التعليم التركي أكثر قدرة على مواكبة متطلبات العصر الحديث، وتخريج أجيال مهيأة لسوق العمل، بينما يبقى التعليم العربي جامدًا، يفتقر للإبداع، ويعاني من ضعف الدعم المؤسسي. ومن هنا تأتي الحاجة الماسة إلى تبني رؤى إصلاحية عميقة تعيد التعليم إلى مكانته كأولوية وطنية تُدار بعقلية تنموية وتطويرية، مستفيدة من التجارب الناجحة كالتجربة التركية التي تجمع بين جودة التعليم، تأهيل الكوادر، الابتكار التقني، وربط التعليم بسوق العمل والتنمية.
يجب أن تركز الدول العربية جهودها على تطوير المناهج، تدريب المعلمين، تحسين بيئة التعلم، وتعزيز البحث العلمي والشراكات الدولية لتبادل الخبرات. كما ينبغي العمل على تغيير النظرة المجتمعية إلى التعليم، وتحفيز الطلاب على تطوير مهاراتهم وتنمية قدراتهم. في النهاية، يبقى التعليم الركيزة الأساسية لأي نهضة حقيقية، وبدونه يصعب تحقيق التنمية المستدامة. تركيا قدمت نموذجًا يحتذى به في تحويل التعليم إلى أداة فعالة لبناء الإنسان والمجتمع، بينما يحتاج العالم العربي إلى عمل جاد وعميق لإصلاح منظومته التعليمية بما يتناسب مع طموحات شعوبه وأجياله القادمة.
في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ التعليم العربي، يتطلب الأمر إيمانًا حقيقيًا بأهمية التعليم كرافعة أساسية للتنمية، ورغبة صادقة في التغيير والإصلاح، مع توفير الموارد اللازمة، وتحفيز الكفاءات، وبناء منظومة تعليمية حديثة تراعي الاحتياجات الحقيقية للمجتمع، وتتفاعل إيجابيًا مع التحولات العالمية، وتفتح آفاقًا واسعة أمام الأجيال القادمة للتميز والتفوق.