كيف نبني حياة تستحق أن تُعاش؟
د. جاسر خلف محاسنه
06-08-2025 11:07 PM
حين يُسأل الناس عن أحلامهم، غالبًا ما تكون اجاباتهم بسيطة. يريدون أن يكونوا سعداء. السعادة، برغم عمقها وتجذرها في النفس، يمكن أن تُقاس بما يشعر به الإنسان كل يوم، في شارعه، وفي بيته، وفي عمله، وفي وطنه. فالسعادة ليست رفاهية، بل مقياس دقيق لصحة المجتمعات، ودستور خفي يعكس عدالة الدول وكرامة الإنسان.
في المدن التي تحترم ساكنيها، يصبح المشي طقسًا يوميًا، ومسارًا صحيًا واجتماعيًا وروحيًا. ممرات المشاة ليست مجرد بنية تحتية، بل هي شرايين الحياة التي تربط الإنسان بمكانه. عندما يسير الإنسان في مدينة صُممت لأجله، يشعر بأنه مرئي، وآمن، ومهم. غياب هذه الممرات يضعف الجسد ويفكك الرابط العاطفي بين المواطن ومدينته.
وفي الفراغات الحضرية، التي غالبًا ما تتحول إلى مكبات نفايات أو مواقف سيارات عشوائية، يمكن أن تولد الحياة من جديد. بناء ملاعب للأطفال، وحدائق صغيرة، ومسارح في قلب الأحياء يمنح المكان جمالًا بصريًا، ويزرع البهجة، ويعزز الصحة النفسية، ويعيد للمدينة نبضها الإنساني. التجارب العالمية في هذا المجال غنية؛ من كوبنهاغن إلى كيتو، المدن التي منحت الأولوية للناس بدلاً من المركبات حصدت مجتمعات أكثر تماسكًا، وأطفالًا أكثر مرحًا، ومسنين أكثر حيوية.
في مشهدٍ آخر من البساطة الهادفة، تأتي تجربة مركز الحسين للسرطان في الأردن، الذي أطلق مبادرة لإيصال أدوية المرضى إلى منازلهم. خطوة تختصر المسافة بين الإنسان والكرامة، وتخفف الزحام، وتعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته. هذه الفكرة يمكن تعميمها بسهولة على مؤسسات أخرى، لتتحول من خدمة إلى فلسفة، ومن إجراء طبي إلى أسلوب حياة.
المسارح العامة منصات للحرية والتعبير والوعي الجمعي. وفي المدن التي تحتفي بالفنون، تولد السياسة الناضجة، ويُربى جيل قادر على التفكير والتعبير. ومن خلال خلق مساحات حوارية جمالية، نحمي المجتمع من الانغلاق، ونعزز التنوع، ونمنح كل فرد فرصة للمشاركة في تشكيل الوعي الجماعي.
تجربة مملكة بوتان، التي جعلت "مؤشر السعادة الوطنية" أهم من الناتج القومي، تفتح أعيننا على معادلة قد تكون هي الأكثر إنسانية. فالمواطن يُقاس بما يشعر، وبما يحلم، وبما يقدّمه له مجتمعه من فرص للنمو النفسي والروحي. مدن المستقبل لن تكون الأعظم بإسمنتها أو ناطحاتها، بل بقدرتها على أن تكون حنونة، وذكية، ومرنة، وعميقة. المدن الإنسانية، التي تضع الإنسان في قلب تخطيطها، هي وحدها التي تصنع أوطانًا جديرة بالحب والانتماء.
أما مقياس السعادة الحقيقي، فتكتبه يوميًا خطى الناس على الأرصفة، وضحكات الأطفال في الزوايا، ونظرة الفخر في عين المُسنّ حين يرى مدينته تنمو من حوله، وتمنحه مكانًا في قصتها.
أن نبني حياة تستحق أن تُعاش، يعني أن نحلم من جديد. أن نكفّ عن تقليد النماذج الجامدة، وأن نؤمن بأن الأردن، بتاريخه وثقافته وشعبه، قادر على أن يكون نموذجًا مُلهِمًا. ليس عبر مشاريع ضخمة معزولة، بل بخطوات صغيرة صادقة، تعيد الثقة، وتمنح الإنسان إحساسًا راسخًا بأنه في وطنه حقًا.
حين يجد الإنسان صوته في المدرسة، وكرامته في المشفى، وأمانه في الشارع، وجماله في المسرح، حينها فقط يمكن أن نقول إننا نبني مستقبلًا يليق بنا.
ففي النهاية، ليست المدن هي ما يبقى، بل ما تبقيه فينا. ليست الطرقات ولا الأبنية ولا الموازنات، بل الذكريات التي نغرسها ونحن نركض أطفالًا في زقاق، أو نستظل بفيء شجرة زرعها أحدهم ذات حب. المدن التي نحبها، لا تموت. والمدن التي لا تُحبنا، لا نستطيع أن نحيا فيها بكامل أرواحنا.
هذه هي الحياة التي تستحق أن تُعاش.