حديقة الحسن للعلوم: من وردة الى معمل
أ.د احمد منصور الخصاونة
08-08-2025 03:29 PM
*حين يزهر الفكر في قلب إربد
في عالمٍ تزدحم فيه الأحداث، وتتسارع فيه التحولات، يبقى للفكر المستنير مكانته الرفيعة، ولأصحاب الرسالة الحضارية دورهم الذي لا يغيب. ومن بين أولئك الذين تركوا بصمة لا تُمحى في الفضاء العربي والدولي، يبرز سمو الأمير الحسن بن طلال بوصفه مفكرًا عالميًا، وإنسانيًا شاملاً، وقائدًا ثقافيًا حمل على عاتقه همّ الإنسان في كل مكان. لم يكن سموه أسيرًا لجغرافيا ضيقة، ولا محكومًا بسقف سياسي محدود، بل ارتقى بخطابه إلى رحاب إنساني فسيح، حيث تُبنى الجسور بين الحضارات، وتُصان الكرامة الإنسانية، وتُستنهض طاقات الشعوب نحو النهوض والتحرر من الجهل والتبعية والتعصب.
لقد قدّم الأمير الحسن بن طلال نموذجًا فريدًا للعقل العربي المتوازن، الذي يُحاور ولا يُخاصم، يُفكّر ولا يُلقّن، يُبادر ولا يكتفي بالتنظير. تميز برؤية فكرية شمولية، لا تفصل بين السياسة والأخلاق، ولا تعزل المعرفة عن الواقع، بل تدمج بينهما في مقاربة واعية تستلهم من التراث العربي الإسلامي، وتنفتح في آنٍ على منجزات الإنسانية الحديثة. وفي مشاركاته الواسعة في المحافل الدولية، كان صوت الأمير الحسن صوتًا عابرًا للحدود، يستند إلى عمق ثقافي راسخ، وينادي بحلول عادلة ومستدامة لقضايا الشعوب، في مقدمتها قضايا التنمية، وحقوق الإنسان، والمياه، والتعليم، والنزاعات العرقية والدينية.
وفي الأردن، اتخذ الأمير الحسن من المعرفة سبيلًا للبناء، ومن الفكر أداة للتنمية، فكان وراء إطلاق عدد من المؤسسات العلمية والبحثية التي شكّلت ركيزة حيوية في البنية الوطنية. ففي عهد المغفور لة باذن الله، الحسين الباني، أسّست الجمعية العلمية الملكية، التي تُعد اليوم من أعرق مراكز البحث والتطوير في المنطقة، وأسهمت في ربط البحث العلمي بالقطاعات الإنتاجية والخدمية، وقدّمت استشارات وخدمات تقنية دعمت الاقتصاد الوطني، ورفعت من كفاءة المؤسسات والصناعات. وكذلك المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا ليكون المرجعية الوطنية لرسم السياسات العلمية والتقنية، ولتوجيه جهود البحث نحو أولويات التنمية، مع التركيز على إدارة الموارد، وتمكين البحث التطبيقي، وتحقيق التكامل بين الجامعات وقطاعات الدولة.
ولأن المعرفة لا تكتمل دون تعليم تطبيقي متين، أطلقت جامعة الأمير سمية للتكنولوجيا، العنان لتصبح من أبرز المؤسسات الأكاديمية المتخصصة في مجالات الهندسة وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي. وقد صمّمت برامجها لتواكب التطورات العالمية، وتسهم في تخريج كفاءات قادرة على قيادة التحول الرقمي، والمنافسة في الاقتصاد القائم على المعرفة. كما جاءت مبادرته في إنشاء مدينة الحسن الصناعية لتجسد رؤيته التنموية الشاملة، حيث تتكامل فيها مفاهيم الإنتاج، والابتكار، وخلق فرص العمل، وجذب الاستثمارات النوعية، ضمن بيئة اقتصادية مرنة ومواكبة لمتطلبات العصر.
ولا يمكن فصل شخصية الأمير الحسن عن البعد الإنساني الذي ظلّ حاضرًا في جميع مواقفه، إذ لطالما عبّر عن انحيازه للفقراء، والمهمّشين، واللاجئين، والمظلومين. آمن بأن الإنسان هو محور كل سياسة، وأن العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن التنمية، ولا يُعوّل على التقدّم ما لم يكن شاملاً ومستدامًا. وبهذا الفهم العميق، جاءت مشاركاته ومداخلاته في المؤتمرات الدولية مفعمة بالقيم، مدعومة بالمعرفة، ومسؤولة أخلاقيًا.
وفي هذا السياق، يأتي إطلاق مشروع "حديقة الحسن بن طلال للعلوم" في مدينة إربد بوصفه امتدادًا طبيعيًا لهذا النهج، وتعبيرًا حيًّا عن فلسفة الأمير في جعل العلم ميسّرًا، وتفاعليًا، ومحبّبًا للنشء. المشروع، الذي سيُقام في "حديقة الورود" بمنطقة النزهة، يمثل فضاءً علميًا مفتوحًا يقدّم العلوم بطريقة مبسّطة وممتعة، تُحفّز الخيال، وتُنمّي التفكير النقدي، وتُخرِج الطلبة من عباءة التلقين نحو فضاءات الاكتشاف والتجريب. إنه استثمار معرفي طويل الأمد، يستهدف تكوين جيل يتفاعل مع العلوم بوصفها أداة لفهم العالم وتغييره، لا كمادة جامدة محصورة في المناهج.
وإذ نحتفي بمبادرات الأمير الحسن الفكرية والعلمية، لا بد من الإشارة إلى استمرار النهج الهاشمي في حمل هذه الرسالة، بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، الذي جسّد في سياسته ورؤيته مفهوم الدولة الحديثة القائمة على التعليم النوعي، والابتكار، والانفتاح الاقتصادي، والدبلوماسية الحكيمة. لقد أولى جلالته العلم والبحث العلمي مكانة مركزية في خطط الإصلاح والتحديث، مؤمنًا بأن التقدم لا يُقاس بعدد المصانع فقط، بل بما تمتلكه العقول من معرفة وقدرة على الإبداع. كما أن سمو ولي العهد، الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، يمثل امتدادًا طبيعيًا لهذا الإرث، ويقود اليوم جيلًا شابًا من الأردنيين نحو آفاق جديدة في التكنولوجيا، والريادة، والاقتصاد الرقمي، عبر رؤى واستراتيجيات تعكس وعيًا عميقًا بتحديات الحاضر وفرص المستقبل.
إن العلاقة التي تربط الأمير الحسن بجلالة الملك عبد الله وسمو ولي العهد ليست فقط قرابة الدم، بل هي قرابة الفكر، ووحدة النهج، وعمق الرؤية، وتكامل الأدوار. فبينما وضع الأمير الحسن الأسس الفكرية والعلمية، بنى الملك عبد الله عليها مؤسسات دولة قوية، ويعيد ولي العهد اليوم صياغتها بلغة الشباب وأدوات القرن الحادي والعشرين. هذه السلسلة القيادية المتماسكة تعبّر عن وحدة المشروع الوطني الأردني الذي يؤمن بالعلم، ويحترم الفكر، ويضع الإنسان في قلب أولوياته.
في سمو الأمير الحسن بن طلال تلتقي الحكمة بالمعرفة، والرؤية بالمسؤولية، والقيم بالواقعية. وقد استطاع أن يُشكّل على مدى العقود الماضية مرجعية فكرية وثقافية، ليس فقط للأردنيين، بل لكل الباحثين عن خطاب عقلاني، متزن، وعابر للأزمات. وإننا إذ نُثمّن هذه المسيرة الثرية، نوقن أن فكر الأمير سيظل حاضرًا، وملهِمًا، ومؤسِّسًا لما هو قادم، ما دامت المبادئ التي نادى بها تُترجم إلى مشاريع ومؤسسات وأجيال تؤمن بأن بناء الإنسان هو الطريق الأوحد لبناء الأوطان.