في الغزل وأكاذيبه الصادقة
د. محمد بزبز الحياري
08-08-2025 08:09 PM
نُعَرِّج على الشعر ونطرق ابوابه ....باب الغزل تحديدا، لنتدفأ به ولو للحظات من برد الحياة الموحش ، ولكي نرمم به أرواحا إعتراها الجفاف واحتلها العطش، ولنعيد توازن وضبط إتجاه للمشاعر والاحاسيس، اللواتي اذا تُرِكنَ على الغارب بلا راعي، تُهنَ في حواري الكآبة، وأزِقة الإنكفاء المقيت الذي يستنزف صاحبه ويميت قلبه شيئا فشيئا ويفقده اللهفة والشغف...
يقولون: أعذب الشعر أكذبه... ويتجلى ذلك واضحا في شعر الغزل.... فعندما يشتد الكذب، تشتد العذوبة،وترتقي عاليا، ويقترب الكذب ليلامس الصدق من جهة ٱخرى بعيدة ومَخفِّية.... من جهة لا يفهمها ولا يعرف دروبها الا العاشقون، في الوقت الذي يغفل عنها غيرهم( أو انها لم تُكتَب لغيرهم اصلا) ،فهي لهم وحدهم ، يتمتعوا بها ويرتعوا كيفما شاؤوا، ويُصَنِّفوا هم أنفسهم قبل ان يصنفهم غيرهم أنهم من الغاوين دون أدنى حرج ،لابل انهم يتباهوا ويتفاخروا بهذا التيه والغي الذي ذهبوا اليه عن يد وهم صاغرين واستسلموا له وأرخوا نواصيهم في حضرته، ويقولوا هل من مزيد.
عود على بدء....فقد أبدع الشعراء في نظم الغزل بحبيباتهم ..
وعلى سبيل المثال....سمعنا من عنترة، عندما حَلَّق في الكذب وصِدقِهِ عاليا، ليرسم عذوبة ما زالت مُلهِمَة للعاشقين لغاية الان....فقد لاح طيف عبلة في خاطره وهو في قلب المعركة وعِز الطِعان فقال:
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ مني
وبيضُ الهند تقطرُ من دمِ
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرُكِ المتبسمِ
الله الله ...فهو بين الحياة والموت في أي لحظة، ومن أي طعنة طائشة، لكن ذلك لم يمنعه من إختلاس فسحة خيال يذهب بها بعيدا.... الى حيث خباء عبلة في عمق الصحراء البعيدة، ويستحضر ثغرها الباسم ... وهذه الفسحة كانت هي الكفيلة بتغيير مسار المعركة، فيحسمها عنترة بالنصر المؤزر.
ونسحب هذا الوصف على أبو الطيب المتنبي، فقد نظم كذبا صادقا....يقول مريدوه انه تفوق في العذوبة على عنترة، عندما استخف بسيوف وسهام الاعداء وطعناتهم ، اذا ما قورنت بطعنات سهام عيني محبوبته النجلاء وقال فيهن:
لا السيف يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ
ولا لقاء عدوي مثلُ لقياكٰ
لو بات سهمٌ من الأعداء في كبدي
ما نال مني مانالته عيناكٰ .
اما المجنون فذهب لأبعد من ذلك ، عندما شكََّل صنفا جديدا من الكذب الصادق وصَوَّرَهُ حوارا وصراعا بينه وبين قلبه ، عندما حَنَثَ قلب قيس بيمينه وَوَعْدِهِ له بالكف عن حب ليلى، فقال في ذلك:
ألستَ وعدتني يا قلبُ أني
إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ؟
فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى
فما لكَ كلَّما ذُكِرَت تذوبُ؟
وما لكَ قد حننتَ لوصلِ ليلى
وكنتَ حَلَفتَ أنك لا تؤوبُ
اما علي ابن الجهم فله قصة قبل الكذب وقصص بعده ، فعندما حضر من البادية قال لهارون الرشيد مادحا :
انت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب
وعندما غضبت حاشيته وأرادوا له العقاب، قال لهم هارون : دعوه فقد انطقته البيئة، إذهب الان وعد بعد شهر، وكأنه يعرف انه ليس بحاجة لأكثر من شهر ليتقن فنون الكذب ويمتطيها ، وفعلا حضر بعد شهر واحد فقط وقال ما لم يقله غيره:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما
تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ
وعندما تَوَلَعَ مصطفى وهبي (عرار ) ذات تسكع وشراب، بإحدى الجميلات الشركسيات، وأخذ منه هذا الحب ما أخذ من جسده ومشاعره.....وعندما كان ينظر متأملا بصورته وما أصاب جسده من نحول بسبب هذا الوَلَه، صار يناجي صديقيه ويقول لهم :
خليلي حُب الشركسية شَفَنِي
ولم يُبقِ مني سوى رسم على ورق
لم يبقي مني سوى رسم ترونه
وقلب لغير الشركسية ما خفق
وقال غيرهم الكثير وأجادوا وأبدعوا، ويحتار الناس ايهم أكثر بلاغة وأصدق كذبا وأعذب غزلا، وينقسم الناس في ذلك الى مذاهب وشِيَع في معرض التفضيل والمقارنة..
لكني أرى ان "خالد الفيصل" وبالرغم من ان زمانه كان متأخرا عن هؤلاء الفحول الذي ذكرنا، الا انه حاذاهم بِإقتِدار، ونافس على العَليا بقوة ، عندما أبدع بقرظ النبطي متغزلا بالعيون وفِعلِها، وسَبَر بالكذب الصادق العذب آفاقا واسعة ورحبة وذهب بعيدا حيث قال:
الله أكــبر كـــيف يـــجرحن العيون
وكيف ما يبرى صويب العين ابد
احسب ان الرمش لا سَلهَم حنون
اثـر رمش العين مــا ياوي لحد
نــقّض جــروحي وجــدّد بي طعون
قلت يكفي قالت عيونه ...بـعد
هي تــمون الـــعين ولاّ مــا تـــمون
ليه خذت قلبي وقَفَّت يا ولد
وأنا بدوري "يا سمو الامير" أشهد انها تمون ، لابل انها تأمر أمرا وما على العاشقين الا السمع والطاعة ...
لكني اتعجب يا سمو الامير ان تتسائل عن العيون وفعلها( هي تمون العين ولا ما تمون؟)، وانت القائل والمُقِر لقمعها وجبروتها في موقع آخر فتقول:
تهزمني النجلا وانا ند فرسان
واخفي طعوني والمحبة تبيني
وختاما وعلى سبيل الدعابة... يُروَى ان أحدهم ( وهو ليس بشاعر) من إحدى المدن الاردنية ( تعرفونها جيدا)، أحب احداهن وأخلص في حبه لها، ولم يسعفه في وصف ذلك الحب سوى مفردات مختزلة في ذهنه( كإبن الجهم)، ولم يستطع الكذب كما فعل مَن كانوا قبله (وبعده)،فقال لمحبوبته صدقا دون مواربة، واصفا لها حال قلبه المتلجلج الهصور لمجرد رؤيتها او التفكير بها ، حيث قال:
"حبك بقلبي مثل دَبِيك الخيل بالوحل"
ألا ترون انه كان اصدقهم؟!؟! ...فقد وصف حبه لها بصورة عفوية تلقائية لم يتطرق لها بهذا الشكل اي شاعر قبله...
دائما في الشعر والغزل للحديث بقية....