خيمة الصحفيين .. واغتيال الشاهد في الحروب
د. سعيد المومني
11-08-2025 12:13 PM
في غزة، قبل ساعات، لم تُستهدف خيمة الصحفيين باعتبارها قطعة قماش على أطراف ساحة حرب، بل كجزء من استراتيجية عسكرية قديمة قِدم الحروب ذاتها: “اغتيال الشاهد”. تلك النظرية، التي يتفق المؤرخون على أنها ركن خفي في أدوات الحسم العسكري، تقوم على مبدأ بسيط وخطير في آن: لا تكتفِ بإسكات البندقية، بل أسكت العين التي قد تُوثّق الجريمة.
استشهاد طاقم الجزيرة، داخل خيمة يفترض أن تكون حصنًا للمهنة، لم يكن فعلًا عشوائياً أو نتيجة “أضرار جانبية”. كان إعلاناً صريحاً أن الحرب لم تعد فقط على البشر أو على البنية التحتية، بل على السردية نفسها.
من سراييفو إلى غزة: تطابق الأنماط
في حروب البلقان، ولا سيما في حصار سراييفو (1992–1996)، كانت مواقع الصحفيين تُستهدف عمداً. القوات الصربية أدركت أن صورة واحدة لمجزرة في سوق أو قصف على حافلة ركاب قد تُحرّك رأياً عاماً دولياً، فكان الحل هو منع تلك الصور من الوجود أصلًا.
في فيتنام، أدركت الولايات المتحدة أن التغطية الإعلامية - خاصة بعد بث صور مجزرة “ماي لاي” عام 1968 - قلبت اتجاه الرأي العام الأمريكي ضد الحرب. منذ ذلك الحين، تغيّر تعامل الجيوش الكبرى مع الإعلام: من السماح بالتغطية شبه المطلقة، إلى التحكم الصارم في الوصول، أو تصفية الشهود إذا لزم الأمر في مناطق لا يمكن السيطرة عليها ميدانياً.
أما في لبنان 1982، فقد قُتل وأُصيب عشرات الصحفيين والمصورين أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وفي بعض الحالات كانت المواقع الإعلامية تُقصف بعد وقت قصير من بث تقارير تنتقد العمليات العسكرية. الهدف كان واضحاً: نزع القدرة على توثيق المشهد أثناء وقوعه، وإحلال الرواية الرسمية محل الرواية الميدانية.
غزة اليوم ليست استثناءً؛ إنها إعادة إنتاج للنمط نفسه، لكن في بيئة أكثر تعقيداً. هنا، لا يواجه المحتل شبكات إعلامية كبرى فقط، بل جيلًا كاملًا من “المواطنين الصحفيين” الذين يمكن أن يبثوا الصورة من هاتفهم إلى العالم في ثوانٍ. ولهذا، فإن ضرب الجزيرة - بكل ما تمثله من رمزية عربية وإعلامية - هو محاولة لكسر العمود الفقري للذاكرة الحية، وإرسال رسالة ترهيب إلى كل حامل كاميرا أو قلم.
لماذا الجزيرة … الصحفي كتهديد استراتيجي
سؤال يفرض نفسه، لا على سبيل المفاجأة، بل على سبيل إدراك أن الصوت المتمرد على هندسة الخطاب الإعلامي العربي ليس مرحّبًا به في قاموس العدو. الجزيرة، بما لها وما عليها، كانت دومًا خارجة عن سرب التواطؤ؛ أداة دولة، نعم، لكن أداة اختارت — في كثير من المحطات — أن تترجم نبض الشارع، وتكسر احتكار السردية الرسمية، وتؤسس لجمهور عربي يرى ويسمع دون إذن من بوابة الرقابة.
في نظر أي جيش يسعى إلى حسم المعركة إعلامياً قبل ميدانياً، الصحفي ليس مجرد ناقل خبر، بل فاعل استراتيجي قادر على إعادة صياغة معنى النصر والهزيمة. نظرية “اغتيال الشاهد” ترى أن تدمير قدرة العدو على إيصال صورته للعالم يساوي تدمير جزء من قوته الفعلية على الأرض.
هذا ما يفسر القصف المتعمد لمكاتب الجزيرة في كابل عام 2001، وفي بغداد عام 2003، واستهداف مراكز إعلامية في غزة مراراً منذ 2008 وحتى اليوم. وهو ما يفسر أيضاً الاغتيالات الفردية لصحفيين مثل شيرين أبو عاقلة، حيث يتحول القتل إلى رسالة مزدوجة: إسكات الصوت، وردع الأصوات الأخرى.
البعد الإنساني… حين تُستهدف الذاكرة قبل الجسد
المأساة في خيمة الصحفيين لا تكمن في فقدان مجموعة من الأسماء فحسب، بل في خسارة أجيال كاملة لزاوية الرؤية التي كانوا يحملونها. هؤلاء لم يكونوا “شهود عيان” بالمعنى التقليدي، بل “حراس الذاكرة” الذين يحمون المجتمع من أن يُروى تاريخه بلسان جلاده.
حين تُقصف خيمة الصحفيين، فإنها لا تسقط على أجساد من فيها فقط، بل تسقط على أعين الأطفال الذين سيكبرون بلا صور حقيقية لما جرى، وعلى وعي العالم الذي سيجد نفسه أمام مشهد مفرغ من الشهود، مليء فقط بالروايات الرسمية.
هل ينجح اغتيال الشاهد؟
التاريخ يقول: نجاحه مؤقت. في البلقان، خرجت صور سراييفو رغم الحصار، وفي فيتنام أسقطت الصور حسابات البيت الأبيض، وفي لبنان لم تمنع تصفية الصحفيين من بقاء صور صبرا وشاتيلا في ذاكرة العالم. في غزة أيضاً، قد تُهدم الخيمة، وقد يُسكت الصوت الكبير، لكن عصر الرقميات يمنح الغزي العادي فرصة لأن يكون هو الجزيرة، وهو الشاهد، وهو المؤرخ.
ومع ذلك، فإن قتل طاقم الجزيرة في هذه اللحظة بالذات، ومع تزامنه مع خطط سياسية لإعادة صياغة مستقبل القطاع، يكشف أن الحرب على غزة ليست فقط حرباً على جغرافيا أو على فصيل، بل حرب على الحق في الحكاية نفسها.
ما بعد الخيمة … حين تصبح السردية خط الدفاع الأخير
إن استهداف خيمة الصحفيين في غزة ليس حدثًا معزولًا في جغرافيا الحرب، بل هو جرس إنذار للنخب والإعلام العربي على امتداد الخريطة. فالمحتل وأي قوة غاشمة عبر التاريخ يدرك أن المعركة على الأرض تكتمل فقط حين تُحسم المعركة على الرواية. وإذا كانت الخيمة قد سقطت اليوم على جسد طاقم الجزيرة، فإن الخطر الأكبر أن تسقط معها السردية التي حملوها.
هنا، تصبح الحاجة ملحة إلى بنية مقاومة إعلامية غير مركزية، تتجاوز هشاشة الأفراد والمؤسسات، وتُبنى على ثلاثة ركائز؛ توزيع أدوات الشهادة، بناء منصات ظل شبكات رقمية بديلة، وأخيراً تحصين الوعي بصياغة خطاب إعلامي عربي يعلّم الجمهور كيف يقرأ الصورة قبل أن يستهلكها، وكيف يميّز الرواية الأصيلة من الرواية المفبركة، حتى لا يتحول المتلقي إلى أداة لترويج خطاب العدو.
إن النخب العربية، إذا اكتفت بالرثاء، ستخسر مرتين: مرةً حين يسقط الصحفي، ومرةً حين تضيع القصة. أما إذا أدركت أن السردية هي خط الدفاع الأخير، فإن سقوط أي منبر، مهما كان رمزياً، لن يعني نهاية الرواية، بل بدايتها من جديد، بصوت أكثر تعددًا، وأصعب على الاستئصال.