شباب الأردن بين التهميش والتحديث
أ.د احمد منصور الخصاونة
11-08-2025 10:08 PM
حين تُكثف الجهات الرسمية في الأردن من حديثها عن تمكين الشباب ودورهم التنموي والمستقبلي في سياق ما تسميه "منظومة التحديث السياسي والاقتصادي والإداري"، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل نحن أمام خطاب جاد يمتلك إرادة التنفيذ، أم أمام اجترار لمفردات وشعارات باتت مستهلكة في وعي الشارع الشبابي الذي ملّ الوعود واصطدم بجدار الواقع القاسي؟.
لقد أضحى ملف "تمكين الشباب" أحد أكثر العناوين تداولًا في اللقاءات الرسمية والحوارات الوطنية، حتى لا تكاد تخلو مناسبة حكومية من الحديث عن أهمية دور الشباب، وضرورة إشراكهم في صنع القرار، وتحفيزهم على الانخراط في العمل العام، ودعم مبادراتهم ومشاريعهم. لكن المفارقة أن هذا الخطاب، وعلى الرغم من زخمه النظري، يقابَل على منصات التواصل الاجتماعي بسيل من التعليقات الساخرة واللاذعة، التي تعكس فقدانًا شبه كامل للثقة، بل وتحولًا في المزاج العام نحو حالة من الرفض والاستهزاء بأي حديث رسمي يتناول قضايا الشباب.
وقد يكون من المفيد أن تسأل المؤسسات الرسمية نفسها: هل ترصد ردود فعل الشباب حقًا؟ هل تستمع لتعليقاتهم بجدية؟ هل تتابع مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت الميدان المفتوح للتعبير عن نبض الناس الحقيقي؟ إن من يطالع تلك التعليقات والردود، وخاصة من الفئات العمرية بين 18 و35 عامًا، سيكتشف حجم الفجوة المتفاقمة بين الخطاب الرسمي وتصورات الشباب للواقع، بل وسيكتشف أن هناك قناعة تتكرس يومًا بعد آخر لدى كثير من الشباب بأن هذا الخطاب لا يمثلهم، ولا يعكس معاناتهم، ولا يعبّر عن طموحاتهم المهدورة.
ما يدفع إلى هذه التساؤلات، ليس مجرد تشكيك عابر أو موقف مسبق، بل مؤشرات واقعية صارخة، وعلى رأسها نسبة البطالة العالية بين صفوف الشباب. لقد أعلن وزير العمل مؤخرًا أن عدد العاطلين عن العمل في الأردن يقترب من نصف مليون، معظمهم من الشباب الجامعيين، ما يشير إلى خلل بنيوي في السياسات التعليمية والتشغيلية، ويكشف عن ضعف التنسيق بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
وفي هذا السياق، من المشروع أن يتساءل الشباب: "عن أي تمكين تتحدثون؟" كيف يمكن الحديث عن تمكين شبابي في ظل سياسات إقصائية أو نُخبوية لا تتيح للشباب الدخول إلى مواقع القرار، ولا تمنحهم فرصًا حقيقية للمشاركة؟ كيف يمكن إقناع شاب عاطل عن العمل منذ خمس سنوات او اكثر، ويحمل شهادة جامعية بتفوق، أن عليه أن يؤمن بوعود التمكين، بينما يراه بأم عينه تُمنح الفرص عبر الواسطة والمحسوبية، ولمن هم من اصحاب الحظوة؟.
التمكين ليس شعارًا يُطرح في المؤتمرات والحوارات التلفزيونية، بل هو مسار طويل يتطلب رؤية واضحة، وإرادة سياسية، وأدوات تنفيذ حقيقية على الأرض. وهو لا يتحقق عبر لجان ومبادرات موسمية، بل من خلال إصلاح هيكلي يبدأ من التعليم، مرورًا بسوق العمل، وليس انتهاءً بتجديد الحياة السياسية وفتح الباب أمام الطاقات الشابة لتكون جزءًا من إدارة الشأن العام.
كما أن التمكين لا يمكن أن ينفصل عن العدالة الاجتماعية. فلا يُمكن لشاب يشعر بالظلم والتهميش أن يكون فاعلًا في التنمية. ولا يمكن أن يُطلب من الشباب أن يكونوا طاقة بنّاءة، بينما يعيشون في ظل ضغوط اقتصادية خانقة، ويعجزون عن تحقيق الحد الأدنى من تطلعاتهم في العمل والمسكن والزواج.
ومن الجدير بالملاحظة أن الشباب في الأردن ليسوا سُذّجًا ولا مغيبين. إنهم على قدر كبير من الوعي والمعرفة والاطلاع، ويتابعون تفاصيل السياسات العامة، ويُحللونها بجرأة على منصات التواصل. وهم أكثر الفئات إدراكًا للتناقض بين القول والفعل، وبين الخطاب والممارسة. وهذا ما يجعلهم يرفضون الشعارات المكررة، ويطالبون بإجابات عملية تقنعهم بأن هناك تغييرًا حقيقيًا يُنتظر، لا مجرد تجميل للمشهد العام.
بل إن بعضهم بات يرى أن "التمكين الشبابي" مجرد أداة تجميل للواقع، تُستخدم عند الحاجة لتجميل الصورة أمام الخارج أو لإضفاء طابع شبابي على المؤتمرات الرسمية، دون أن يُترجم ذلك إلى فرص حقيقية على أرض الواقع.
إن المطلوب اليوم، إن كانت النية فعلًا صادقة، أن تُفتح قنوات حوار مباشر بين الشباب وصنّاع القرار، وأن تُبنى جسور ثقة لا شعارات، وأن تُمنح الفرصة الحقيقية لأولئك الشباب أصحاب الكفاءة والموهبة والمبادرة، لا لأصحاب الولاءات والانتماءات الضيقة. فالأردن لا يفتقر إلى شباب قادرين على القيادة، لكنه يفتقر إلى آلية عادلة تتيح لهؤلاء الشباب أن يُعبّروا عن أنفسهم ويأخذوا مكانهم.
واخيرا، لا قيمة لأي تحديث سياسي أو اقتصادي أو إداري ما لم يكن الشباب في قلبه وروحه. ولا مستقبل لأمة لا تؤمن بشبابها إيمانًا حقيقيًا يتجاوز حدود الشعار. أما إذا بقي الحديث عن التمكين مجرد تكرار لكليشيهات مألوفة، فإن الثقة ستبقى مفقودة، والفجوة ستزداد، والنتائج ستكون أبعد ما تكون عن طموحات الوطن والمواطن. وفي خضم هذا الواقع المرتبك، لا يملك الشباب اليوم سوى أن يُعلّقوا آمالهم على سمو ولي العهد، الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي أثبت في كل محطة أنه الأقرب إلى نبضهم، والأصدق في تمثيل تطلعاتهم. فمبادرات سموه لم تكن يومًا مجرد شعارات، بل برامج ملموسة، ومشاريع ميدانية، ورؤية عصرية تؤمن بأن الشباب ليسوا عبئًا على الدولة، بل هم فرصتها الكبرى. نحن نعوّل كثيرًا على سمو الأمير، لأنه لم يخذل الصوت الشبابي يومًا، ونعلم أن طريق التمكين الحقيقي لن يُفتح إلا حين تتجسد أفكار سموه كنهج دولة لا كمبادرات معزولة..