حينما كتبت مسلسل الطواحين قبل حوالي أربعين عاما كان في ذهني المعمار الجميل الذي تركه الأردنيون في السلط وعمان والكرك واربد ومعان والطفيلة . بعض أبناء الجيل الوارث لذلك المعمار هدموه وبنوا مكانه عمارات من الزجاج فأجورها تغري كل مالك بالتغيير . كنت انا والمخرج الراحل سعود الفياض نستعرض ما حدث لسرايا السلط . تلك المدينة التي كانت عاصمة وسط المملكة ذات حين .

ولا تُذكر البلقاء الاّ وتُذكر السلط معها . فقد خرّجت مدرستها البناة الأوائل للوطن من حملة الشهادات الجامعيّة . البعض عاد للتدريس فيها وفي الكرك مثل الرئيس الشهيد وصفي التل والرئيس الراحل سليمان النابلسي . في مسلسل الطواحين بيت حجر يقوم على قناطر رائعة وسط بلدة الطواحين . عرض أحد التجار شراءه ليبني مكانه عمارة حديثة تصدى له حفيد الجدة ورفض البيع فتآمر التاجر على قتله ... رغم أحزان الجدة على موت حفيده فقد رفضت بيع بيت العقد ( السلطية يسمون القنطرة التي تحمل السقف عقد )... حينها كنت قد زرت عدة بلدان في أوروبا ووجدت أن حكوماتها تنفق على صيانة المعمار التراثي ما يوازي ثمن الارض والبناء ليبقى ارثاً تفخر به الأجيال ...

هذا ما فعله السلطيون في بيت أبو جابر وسوق الحمام وبيت القواقشة الذي أقام فيه وزير الثقافة مصطفى الرواشدة حفلاً لتكريم حُفّاظ التراث الأردني . ولا شك أنهم يستحقون التكريم . صمد بيت شاعر الأردن عرار مصطفى وهبي التل في اربد . وصمد معه ديوان الكرازمة المطرز بعشرات التحف الاثرية ابتداءً من خابية الفخار وانتهاءً بعود الحراث أبو سكة مع المنساس الذي اخذ الأردنيون اسمه من الآية الكريمة (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) ...

صمدت مدرسة الكرك الثانوية بمعمارها المميز وصور طلابها بالشورت والقضاضة البيضاء والعقال الذي ارتداه الطفل الذي اصبح رئيسا للوزراء الراحل الطبيب عبد السلام المجالي ... لا شك ان خطوة الوزير مصطفى الرواشدة في السلط هي حدث ثقافي يدل على بعد النظر بالاهتمام بالمعمار الأردني وما يحويه من تراث الأجداد . فالتراث جزء من ثقافة الشعوب . وهو دلالة على الشخصية الوطنية التي راكمت المعرفة عبر العصور . فنحن لم نزل وسنبقى نعيش حالة الانكار لمشروع إسرائيل الكبرى .. وفي البال الصهيونيين الأوائل الذين وصفوا وطننا انه مجموعة من البدو الرحل ... أعاد الرجل إحياء مجلة الفنون الشعبيّة التي اختفت زمنا طويلا من مطبوعات الوزارة . وذرع ارض المملكة طولا وعرضا من الرويشد الى اربد والسلط والكرك ومعان . وفي كل محطة يظهر تاريخ الأردن الاجتماعي والسياسي والعسكري عبر العصور ... أشد على يد مصطفى الرواشدة وأقل ما أخاطبه بكلمة كان الحصادون الأردنيون وبناة الحجر الأوائل يتلقونها من الزائرين ... صح بدنه .. صح بدنه وطال عمره ...