facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




"السلطة" في غزة .. العقدة التي تخشاها إسرائيل


فراس النعسان
21-08-2025 11:21 AM

غزّة التي صارت أيقونةً للجروح المفتوحة، لم تعد سؤالاً عن جغرافيا محاصَرة فقط، بل صارت مرآةً لما لا تريده إسرائيل أكثر مما هي مرآة لما تريده. فحين يُطرح خيار عودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة القطاع، تهتزّ الحسابات الإسرائيلية من جذورها، وكأن تل أبيب لا تخشى من حضور سلطةٍ ضعيفة بقدر ما تخشى من شبح الاعتراف السياسي الذي يرافقها. فإسرائيل، منذ أوسلو وحتى اليوم، اعتادت على إدارة الصراع لا على إنهائه، وعلى تعطيل الولادة السياسية لا على تبنّيها، ولذلك فإن عودة السلطة إلى غزة تعني ما لا تطيقه عقيدتها: إعادة وصل ما انقطع بين الضفة والقطاع، وترميم فكرة الدولة التي أمضت عقوداً في محاولات نسفها.

إن السماح للسلطة بالعودة إلى غزة ليس مجرد إجراء إداري، بل هو حدث سياسي يتجاوز حدود القطاع الضيق. عودة السلطة تعني أن ثنائية الضفة وغزة، التي صنعتها إسرائيل بعناية وحافظت عليها كأداة لتفكيك الكيان الفلسطيني، ستبدأ بالتآكل. وحين يتوحد الجناحان، حتى لو تحت سلطة باهتة، فإن فكرة “الكيان الواحد” تعود إلى الطاولة من جديد. هذه العودة تحمل في طياتها استعادة للشرعية الفلسطينية في نظر المجتمع الدولي، وهو ما تحاول إسرائيل منعه بشتى الطرق. فالمعادلة الإسرائيلية تقوم على إضعاف السلطة بما يكفي لإبقائها عاجزة، لكنها في الوقت ذاته لا تريد أن ترى غزة تُدار باسمها، لأن ذلك ينعش أحلام الدولة الفلسطينية الموحدة.

تدرك إسرائيل أن السماح للسلطة بالسيطرة على غزة سيقوّي الموقف التفاوضي الفلسطيني، ويعيد إلى الواجهة خطاب “الدولة” بدل خطاب “المناطق المنفصلة”. وهي تخشى من أن يتحول القطاع إلى منصة سياسية للسلطة يمكن أن تتكامل مع الضفة، وتعيد فتح ملفات المفاوضات المجمدة. وهذا بحد ذاته يناقض المنهج الإسرائيلي القائم على تأبيد المؤقت، وتوسيع الفراغ، وتجنب أي صيغة نهائية قد تُلزمها بتنازلات لا تريد أن تقدمها. لذلك فإن عودة السلطة إلى غزة ليست بالنسبة لإسرائيل شأناً داخلياً فلسطينياً، بل تهديد استراتيجي لجوهر مشروعها القائم على التقطيع الجغرافي والسياسي.

هناك أيضاً البعد الأمني، وهو الذي لا ينفصل عن البعد السياسي. فالسلطة الفلسطينية، برغم كل ضعفها وتآكل مشروعها الداخلي، تظل سلطة مُعترفاً بها دولياً، لها خطابها ومؤسساتها وشرعيتها التي لا يمكن شطبها بسهولة. عودة هذه السلطة إلى غزة ستضع إسرائيل أمام شريك رسمي لا يمكن التعامل معه بمرونة العدو التقليدي. فمع حماس تستطيع تل أبيب أن تخوض الحروب الدورية وتعيد “تقليم العشب” كل بضع سنوات، أما مع السلطة فهي مجبرة على الاعتراف بالبعد السياسي للصراع، وهو ما تحاول منذ عقود دفنه تحت ركام “الأمن”. ولأن إسرائيل تُجيد لغة القوة أكثر مما تُجيد لغة السياسة، فهي تفضل أن تبقى غزة خارج يد السلطة، بحيث تظل المشكلة عسكرية قابلة للإدارة بالنار، لا سياسية قابلة للتفاوض.

إسرائيل، بوعيها العميق لما تعنيه الرموز، تخشى أيضاً من الصورة التي قد تنتجها عودة السلطة. فالعالم، مهما بدا غارقاً في صفقاته، يحتاج إلى عنوان يتعامل معه. وحين تكون السلطة الفلسطينية هي العنوان في غزة كما في الضفة، فإن العالم سيعود إلى مخاطبة الفلسطينيين بصفتهم “شعباً واحداً تحت سلطة واحدة”. هذه الصورة، التي تبدو بديهية، هي أخطر ما تخشاه إسرائيل، لأنها تزيل من أمامها ذريعة الانقسام التي طالما استخدمتها للهروب من أي التزام سياسي. لذلك فهي تفضّل استمرار الانقسام، حتى لو كان الثمن المزيد من الدم والمعاناة، على أن ترى السلطة تلتقط خيط الشرعية من جديد.

وليس من المبالغة القول إن إسرائيل ترى في عودة السلطة إلى غزة إحياءً لمشروع لم يعد جزءاً من حساباتها: مشروع الدولتين. فوجود سلطة فلسطينية في الضفة وحدها يسمح لإسرائيل بأن تعيش في وهم أن هذا كيان ناقص لا يملك مقومات الدولة. أما إذا عادت إلى غزة، فإن الخطاب الدولي سيتغير، وسيعود الضغط على إسرائيل للقبول بحل سياسي. من هنا يمكن فهم تمسكها بخيار “الإدارة من بعيد”: حصار يدار عن بعد، وتمويل دولي لإعادة الإعمار، وتفاهمات أمنية عبر الوسطاء، من دون أن يُسمح للسلطة بالاقتراب من المشهد. فالفوضى، مهما كانت مكلفة، تظل بالنسبة لإسرائيل أقل خطراً من وجود سلطة موحدة تعيد الروح لفكرة الدولة.

ثمّة بعد داخلي لا يقل أهمية، وهو البعد الإسرائيلي نفسه. فعودة السلطة إلى غزة ستجعل إسرائيل تفقد ورقتها الأهم في الداخل: ورقة “العدو القابل للتوظيف”. مع حماس تستطيع الحكومات الإسرائيلية أن تحشد ناخبيها خلف خطاب أمني يبرر كل شيء: القصف، الحصار، الجدار. لكن مع سلطة تُدير غزة، سيكون المشهد مختلفاً. لن يكون العدو هنا “تنظيماً مسلحاً” بل كياناً سياسياً مُعترفاً به، وحينها ستصبح إسرائيل هي الطرف الذي يرفض التسوية، لا الطرف الذي “يحارب الإرهاب”. إن معادلة العلاقات العامة التي تتقنها تل أبيب ستنهار في لحظة كهذه، لأنها ستجد نفسها عارية أمام العالم كدولة تهرب من السياسة وتحتمي بالمدفعية.

قد يبدو غريباً أن ترفض إسرائيل سلطة ضعيفة فقدت الكثير من أوراقها، لكن الضعف هنا هو ما يجعلها خطرة. فسلطة بلا قوة عسكرية كبيرة، وبلا أوراق ضغط، وبلا مشروع بديل سوى “التفاوض”، هي سلطة يمكن للعالم أن يحتضنها كخيار عقلاني وحيد. وهذا ما تخشاه إسرائيل بالضبط، لأن العالم إذا أعاد تبني السلطة فلن يكون أمامها سوى العودة إلى المسار السياسي، وهو ما لم تعد مستعدة له بعد أن استثمرت عقوداً في بناء واقع استيطاني يحسم أي تفاوض مسبقاً.

لهذا كله، فإن الإجابة عن سؤال: لماذا لا تريد إسرائيل السلطة الفلسطينية في غزة؟ تكمن في أن هذه العودة ستفتح نافذة كانت قد أُغلقت: نافذة الدولة الفلسطينية. إسرائيل تفضل الفوضى على النظام، والخصم المسلح على الشريك السياسي، والانقسام على الوحدة. إنها سياسة تقوم على منع الخصم من أن يكتسب شكلاً سياسياً متماسكاً، حتى لو كان ضعيفاً، لأن الضعف نفسه قد يتحول إلى قوة حين يجد اعترافاً دولياً يغطيه. غزة في يد السلطة تعني فلسطيناً بوجه واحد، وهذا بالضبط ما تحاول إسرائيل منذ عقود أن تمنعه.

وفي النهاية، فإن رفض إسرائيل لعودة السلطة ليس مجرد رفض لشخص أو مؤسسة، بل هو رفض للاعتراف بوجود كيان فلسطيني يمكن أن يطالب بالحرية والسيادة باسم شعب كامل. غزّة هنا ليست شريطاً ساحلياً فحسب، بل هي حجر الزاوية في معمار الدولة المؤجلة. ومن أجل أن تبقى هذه الدولة وهماً، تفضل إسرائيل أن تُبقي غزة معزولة، مشغولة بجراحها، بعيدة عن يد السلطة، قريبة فقط من جدار السجن. إنها لعبة الزمن المفتوح: إدارة أزمة لا حلها، وصناعة فراغ لا ملئه، لأن السلطة حين تعود، يعود معها السؤال الذي تتهرب منه إسرائيل منذ البداية: أي مستقبل يمكن أن يُبنى لشعب لا يزال يحلم بدولته؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :