facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الجامعة المنتِجة: من شعار "الإنسان أغلى ما نملك" إلى ركيزة اقتصاد المعرفة


أ.د. أحمد منصور الخصاونة
23-08-2025 08:45 PM

لا يعيش رئيس الجامعة في فراغ، ولا ينطلق في عمله من عزلةٍ عن محيطه؛ فالجامعة جزء من مجتمعها، تتأثر به بقدر ما تؤثر فيه، وتدور بإيقاعٍ تفرضه الدولة التي تنتمي إليها. وإذا كانت الجامعة بيت العلم والمعرفة، فإنها في الوقت نفسه أداة تنمية، ومحرك تغيير، وصوت المستقبل. ومن هنا، فإن دور رئيس الجامعة، مهما كان عظيماً، لا يكتمل إلا بقدر ما يستطيع أن يجعل جامعته فاعلاً في حركة الدولة، ومتناغماً مع نبض المجتمع.

في الأردن، ومنذ مرحلة التأسيس الأولى، ثم البناء والتعزيز، أدركنا أنّ رأس المال الحقيقي الذي تقوم عليه الدولة الحديثة ليس النفط ولا المعادن ولا الموارد الطبيعية، بل هو الإنسان. ومن هنا جاءت مقولة الملك الراحل الحسين بن طلال، التي ما تزال حيّة في الضمير الوطني: "الإنسان أغلى ما نملك". لم تكن هذه العبارة شعاراً دعائياً عابراً، بل كانت رؤية استراتيجية رسمت مسار الأردن لعقود، ووضعت التعليم في قلب مشروع الدولة. فالإنسان الأردني هو غاية التنمية ووسيلتها في آن، وهو الثروة التي تُستثمر وتُنمّى لتكون رافعة للاقتصاد الوطني.

ومع تسارع التحولات العالمية، لم يعد يكفي أن تظل الجامعة مجرد مؤسسة تمنح الشهادات وتوزع الألقاب الأكاديمية. العالم يتغير، وسوق العمل يعيد تشكيل نفسه، والتكنولوجيا تفرض إيقاعاً جديداً، ومن لا يواكب يتراجع. في هذا السياق وُلد مفهوم الجامعة المنتِجة، الجامعة التي لا تستهلك مواردها وتنتظر الدعم الحكومي، بل تبتكر وتعمل وتنتج، وتحقق اكتفاءً ذاتياً يمكنها من مواصلة رسالتها التعليمية والبحثية.

الجامعة المنتِجة هي الجامعة التي تبحث عن مصادر تمويل جديدة ومتنوعة: بحوث علمية متخصصة، استشارات أكاديمية، دورات تدريبية مدفوعة، مشاريع ريادية نابعة من مختبراتها، وشراكات مثمرة مع القطاعين العام والخاص. وهي الجامعة التي تدرك أن استقلاليتها المالية شرط لاستقلاليتها الأكاديمية، وأن الاكتفاء الذاتي ليس رفاهية، بل ضمانة لبقائها واستمراريتها.

لكن الجامعة المنتِجة لا تتوقف عند حدود المال، فهي قبل ذلك وبعده مشروع وطني. حين تستثمر الجامعة في كوادرها البشرية، وتستنهض طاقات أساتذتها وباحثيها وطلبتها، فإنها تسهم في بناء اقتصاد وطني متماسك. وحين توظف معرفتها في خدمة المجتمع، فإنها تغرس جذور الابتكار والإبداع في بيئة تحتاج إلى أفكار جديدة. وحين تُعلي قيمة العمل والإنتاج، فإنها تدرب الأفراد على أن يكونوا شركاء في بناء وطنهم لا مجرد متلقين للخدمات.

إنّ الجامعة المنتِجة تزيد من تنافسية الدولة في محيطها الإقليمي والعالمي، لأنها تتبنى معايير الاعتماد الدولية، وتفتح أبوابها للبحث المشترك، وتشارك في صناعة المعرفة بدلاً من استهلاكها فقط. وهذا بحد ذاته يعزز صورة الأردن كبلدٍ قادر على أن يكون مركزاً تعليمياً رائداً، وحاضنة للكفاءات، وجسراً للمعرفة.

وللجامعة المنتِجة ثلاثة أركان كبرى تقوم عليها: الأول: الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع وادخال منظومات الذكاء الاصطناعي، وهذا يعني أن يكون البحث العلمي متصلاً بحاجات الناس لا معلقاً في فراغ، وأن تكون خدمة المجتمع جزءاً أصيلاً من رسالة الجامعة لا نشاطاً ثانوياً. الثاني: تعزيز التعليم الذاتي والإعداد الشامل للطلبة. فالطالب ليس مجرد متلقٍ للمعرفة، بل هو شريك في إنتاجها. والجامعة لا تهيئه لامتحانٍ عابر، بل تعدّه لحياة مليئة بالتحديات، فلا يخرج منها طالب عاطل، بل شاب قادر على الإبداع والعمل والابتكار. الثالث: تحويل المعارف النظرية إلى ممارسات تطبيقية قابلة للحياة. فما قيمة المعرفة إن بقيت حبيسة الورق أو عالقة في قاعات المحاضرات؟ إنما تتحقق قيمتها حين تصبح فكرة نافعة، أو مشروعاً ريادياً، أو خدمةً مجتمعية تعود بالنفع على الناس.

ورغم وضوح الرؤية، فإن الطريق نحو الجامعة المنتِجة ليس سهلاً. هناك تحديات مالية وتشريعية، ومعوقات إدارية وبيروقراطية. لكن التحديات مهما عظمت لا يمكن أن تحجب بريق الفرص؛ فالأردن غنيّ بشبابه الطموح، وبكفاءاته الأكاديمية المتنوعة، وبموقعه الاستراتيجي الذي يتيح له أن يكون مركزاً للتعليم والبحث في المنطقة.

إنّ التحول نحو الجامعة المنتِجة يتطلب شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وانفتاحاً على الاقتصاد الرقمي، وتبنياً لثقافة الابتكار. كما يحتاج إلى إدارة جامعية تمتلك رؤية واضحة، وعزيمة صلبة، وقدرة على التوازن بين رسالتها الأكاديمية ومتطلبات السوق.

في النهاية، تبقى الجامعة المنتِجة أكثر من مجرد شعار أو مصطلح أكاديمي. إنها حاجة وطنية واستراتيجية، تعكس إيماننا العميق بأن الاستثمار في الجامعة هو استثمار في الإنسان، وأن كل دينار ينفق في التعليم يعود أضعافاً في التنمية. إنها ترجمة حية لمقولة الحسين الخالدة: "الإنسان أغلى ما نملك"، وتجسيد لإرادة وطن يريد أن يبني مستقبله بسواعد شبابه وعقول علمائه.

وحين ينجح رئيس الجامعة في أن يجعل من مؤسسته جامعة منتِجة بحق، فإنه لا يحقق إنجازاً إدارياً فحسب، بل يسهم في صياغة مستقبل وطن، ويضع لبنة جديدة في صرح الدولة التي قامت منذ بداياتها على الإيمان بالإنسان، وستبقى دوماً تراهن عليه.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :