هزاع المجالي .. حين يصبح الغياب لغة حضور
فراس النعسان
29-08-2025 12:15 PM
في التاسع والعشرون من آب، يعود الجرح ليتفتح في الذاكرة الأردنية بعد خمسةٍ وستين عامًا على استشهاد رجلٍ كان أشبه بمرآةٍ لزمنٍ صعبٍ وحلمٍ أكبر من عمره. هزاع المجالي، رئيس الوزراء الأسبق، لم يكن مجرد اسمٍ في سجل الحكومات، بل كان صوتًا من أصوات البدايات الأولى، حين كان الأردن يخطّ سطوره الأولى على ورقٍ تتنازعه العواصف.
هزاع لم يرحل في يومٍ عادي. لقد غادر بصوت انفجار، كأنما أراد القدر أن يجعل من نهايته بداية أخرى، وأن يكتب بجسده ما عجز السياسيون عن كتابته بالحبر. كان اغتياله أكثر من حدث سياسي، كان محاولة لاغتيال فكرة، لفصلٍ كاملٍ من الحلم الأردني، غير أنّ الدم المسفوح أعاد كتابة النص من جديد، بلغة أكثر وضوحًا، وأشد رسوخًا.
في الخمسينيات والستينيات، كان الأردن يقف عند منعطفٍ حاد، تحاصره التيارات من كل الجهات، وتتنازعه إرادات الخارج قبل الداخل. في هذا المشهد الملتبس، كان هزاع المجالي يشبه غصنًا أخضر في غابةٍ من الحديد. كان صمته أكثر تعبيرًا من خطابات كثيرة، وكان حضوره ناطقًا باسم فكرة الدولة التي لم تكن قد اكتملت بعد. ربما كان يعرف أن السياسة في بلدٍ صغيرٍ محاطٍ بالأطماع، ليست مهنةً بل قدرًا، وليست مكسبًا بل تضحية.
رحل المجالي ولم يرحل. مات الرجل وبقي المعنى. بقيت صورته تسكن الذاكرة الأردنية كأيقونة، وكظلٍ يذكّر الأجيال بأن طريق الدولة لم يكن مفروشًا بالحرير، بل بالدمع والدم معًا. كل ذكرى لاستشهاده ليست مجرد طقسٍ عاطفي، بل استدعاء لتلك اللحظة التي أراد فيها الغدر أن يطفئ النور، فاشتعل النور أكثر.
هزاع المجالي كان عنوانًا لشجاعة رجل الدولة الذي يتجاوز زمنه، وكان سؤالًا معلقًا: كيف يمكن لوطن صغير أن ينهض وسط العواصف دون أن ينكسر؟ والجواب لم يكن في نظريات ولا خطب، بل في دمعة أمٍ ثكلى، وفي صمت شعبٍ لم ينسَ.
الآن، بعد خمسةٍ وستين عامًا، نتأمل الغياب كأنه حضور متجدد. نتأمل الشهيد لا كشخصٍ اغتيل، بل كرمزٍ يستحيل اغتياله. نتأمله كجملة ناقصة في كتاب السياسة الأردنية، لكن هذه الجملة الناقصة هي التي منحت النص كله دلالته.
إن استذكار هزاع المجالي اليوم ليس حنينًا إلى الماضي فحسب، بل هو قراءةٌ لمعادلةٍ أبقى: أن الأوطان تُصنع بالتضحيات، وأن الدولة التي وُلدت وسط الحرائق ما زالت بحاجة إلى أولئك الذين يشبهون هزاع في نبلهم وصدقهم وصلابتهم.
فالزمن قد يغيّب الأجساد، لكنه لا يغتال الفكرة. والفكرة التي جسّدها هزاع المجالي ما زالت حيّة، تمشي بيننا، كوصيةٍ غير مكتوبة، وكحقيقةٍ لا يبدّدها النسيان: أن الأردن وطنٌ وُلد من دماء الشهداء، وسيبقى حيًّا بقدر ما يحفظ هذا الدم.