الاغتراب الأخلاقي: غربة الروح أمام مرايا الزيف
د. قيس العجلوني
29-08-2025 02:37 PM
ما أقسى أن يستيقظ الإنسان في صباحٍ مكتظّ بالوجوه، فيكتشف أنّه وحيد. ليس وحيدًا بالعدد، بل وحيدًا بالقيم. يرى من حوله يبتسمون، يتصافحون، يرفعون شعارات عن الحق والعدالة، لكنّه يدرك أنّ تلك الوجوه ليست سوى مرايا مصقولة تخفي خلفها فراغًا كبيرًا. هنا يولد الاغتراب الأخلاقي؛ ذلك الإحساس بأنّ روحك تسكن وطنًا لا يراه أحد غيرك.
جدلية الداخل والخارج
الاغتراب الأخلاقي ليس حادثة عابرة، بل هو جدلية مستمرة بين الداخل والخارج. الداخل طاهر يتوق إلى الصدق والرحمة، والخارج صاخبٌ تملؤه المساومات والأقنعة. هذا التناقض يجعل الإنسان في حالة ارتجاف دائم: هل ينحني للواقع ليتجانس، أم يصمد وحيدًا ويقبل جراح الوحدة؟
الغربة كعلامة حياة
paradox الاغتراب أنّه مؤلم لكنه في الوقت ذاته برهان حياة. فلو كان القلب ميتًا لما شعر بشيء. إنّ الإحساس بالغربة بين الناس هو الدليل الوحيد على أنّ الضمير ما زال يتنفّس. وكأنّ الله يزرع في قلب الإنسان غصنًا أخضر وسط صحراء قاحلة، ليذكّره بأنّ النقاء ممكن ولو أحاطه الغبار.
بين العزلة والمواجهة
أمام هذا الاغتراب، يقف المرء عند مفترق: إمّا أن يختار العزلة، انسحابًا من سوق الضوضاء وحفاظًا على نقاء داخلي، وإمّا أن يختار المواجهة، فيحمل غربته كراية، متحديًا جموع المزيّفين. وفي الحالتين هو غريب، لكنه غريب يشهد أنّ للإنسانية بعدًا أعلى من المصلحة واللذة.
الخاتمة: الغربة طريق العودة
الاغتراب الأخلاقي ليس لعنة، بل دعوة للعودة إلى الأصل. هو تذكير بأنّ الإنسان لا يُقاس بعدد الأصدقاء أو الأتباع، بل بقدرته على أن يبقى صادقًا في عالمٍ يتقن الكذب. ومن سار في طريق الغربة، إنما يسير في أعمق مسالك الحرية: حرية أن يكون كما أراده الله، لا كما فرضه الناس.