هندسة فلسطين .. أوروبا تتحرك وأمريكا تؤجل والعرب يراقبون
د. سعيد المومني
01-09-2025 01:47 PM
منذ عام 1988، عندما مُنع ياسر عرفات من إلقاء كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مروراً بمنع الرئيس محمود عباس مؤخراً من المنبر ذاته، يتجلى الثبات في الموقف الأمريكي تجاه القيادة الفلسطينية. القضية الفلسطينية تبدو محاصرة ليس فقط بالاحتلال، بل أيضاً بسياسات القوى الدولية، حيث لم يطرأ أي تغير جوهري على مواقف واشنطن عبر العقود. يتكرر المشهد وكأن العالم يبعث رسالة ثابتة مفادها أن صوت الفلسطيني، مهما علا، سيظل مهدداً بالإقصاء. هذه ليست مجرد حوادث بروتوكولية، بل تعكس سياسة أمريكية ثابتة تعتمد على استخدام المؤسسات الأممية كأداة ضغط سياسي، تخدم موازين القوة ولا تتغير وفق معايير العدالة.
لكن السؤال الأعمق هو: ما الهدف من هذا الضغط المتجدد؟ هل يراد إنهاء السلطة الوطنية الفلسطينية بوصفها غطاءً شكلياً فاقداً للشرعية والقدرة؟ أم المطلوب تفريغ الضفة الغربية من أي كيان سياسي يقاوم مشروع “يهودة والسامرة” الإسرائيلي؟ هذه الضغوط لا تبدو عابرة، بل تندرج ضمن رؤية استراتيجية تسعى إلى إعادة هندسة المشهد الفلسطيني بحيث يُختزل في إدارة مدنية بلا سيادة، تُدار من الخارج وتُساق لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعرب معاً.
في هذا السياق، برز الموقف التركي كعامل كسر للتوازن التقليدي. قرار أنقرة بقطع العلاقات الاقتصادية وإغلاق الموانئ أمام السفن الإسرائيلية لم يكن مجرد إجراء دبلوماسي، بل خطوة سياسية تحمل دلالات أعمق في لحظة فارقة. فبينما تعلن إسرائيل أنها في صدد “احتلال غزة بالكامل” وتوسيع عملياتها نحو اليمن، وصولاً إلى اغتيال رئيس وزراء اليمن وعدد من وزرائه، تبدو تركيا وكأنها تسعى إلى ملء فراغ عربي متزايد. الغياب العربي المنظم، سمح لأنقرة أن تقدم نفسها لاعباً بديلاً يتقاطع فيه الطموح الإقليمي مع خطاب الدعم للقضية الفلسطينية. إنها ليست مجرد خطوة تركية معزولة، بل انعكاس لمعادلة جديدة: كلما تراجع الدور العربي، ازداد حضور اللاعبين غير العرب في معادلة الصراع.
وفي الجهة المقابلة، يتبلور مشهد أوروبي مغاير. أوروبا التي وقفت في بدايات حرب السابع من أكتوبر على مسافة مترددة، تعلن اليوم تحركات غير مسبوقة نحو الاعتراف بدولة فلسطينية. يبدو وكأن القارة العجوز دخلت سباقاً مع الزمن لتسجيل موقف سياسي قبل أن يُطوى الملف أو يُعاد صياغته على الطريقة الأميركية. هذا التحرك الأوروبي لا ينفصل عن الضغوط الشعبية داخل المجتمعات الغربية، ولا عن التحولات الأخلاقية في الرأي العام بعد مشاهد الإبادة في غزة، لكنه يظل محاطاً بشكوك عميقة حول مدى قدرته على الترجمة العملية، خصوصاً في ظل السعي الأميركي المحموم لتعطيله أو تأجيله. واشنطن، التي ما زالت ترى في أي اعتراف بالدولة الفلسطينية مساساً بميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة، تعمل على إعادة ضبط الإيقاع الدولي بما يضمن استمرار التفوق الإسرائيلي دون منازع.
وسط هذه التحولات الإقليمية والدولية، يبرز لقاء لافت في واشنطن بين توني بلير وجاريد كوشنر مع دونالد ترامب في البيت الأبيض، مشهد لا يمكن فهمه بمعزل عن محاولة إعادة تدوير “الرباعية الدولية” بواجهة جديدة. بلير، الذي شغل منصب مبعوث الرباعية بين 2007 و2015، ترك إرثاً سلبياً تمثل في تحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إداري وتقني، بعيد عن جوهرها السياسي والوطني. كوشنر، من جانبه، لعب دور العرّاب في “صفقة القرن”، التي سعت لتصفية الحقوق الفلسطينية عبر بوابة التطبيع الاقتصادي. عودة هذه الشخصيات اليوم تحت مظلة ترامب ليست صدفة، بل تعكس إصراراً على إعادة إنتاج الأدوات نفسها بروح أكثر فجاجة، في محاولة لإعادة هندسة القضية الفلسطينية على نحو لا يعترف بالحقوق الأساسية، بل يحصرها في إدارة اقتصادية وأمنية بحتة، مع إقصاء أي مشروع تحرر وطني حقيقي.
في موازاة ذلك، تضغط الولايات المتحدة في لبنان بهدف نزع سلاح حزب الله، وتعيد توزيع قواتها في العراق بما يوحي بإعادة تموضع استراتيجي استعداداً لمرحلة جديدة. هذا المشهد الإقليمي المتداخل يضع الأردن ومصر في عين العاصفة. بالنسبة لعمان، لا يمكن إنكار أن شبح “الوطن البديل” يلوح دائماً في الخطاب السياسي، لكنه واقعياً ليس مشروعاً قابلاً للتطبيق من منظور أمني واستراتيجي، بل ورقة ابتزاز تُستخدم للضغط والمساومة. الأخطر على الأردن ليس التهجير المباشر، بل الانكشاف أمام تحولات إقليمية قد تضعه في موقع هش سياسياً واقتصادياً. أما مصر، فهي بين مطرقة الضغوط الأميركية وسندان استقرارها الداخلي، ما يجعلها تتحرك بحذر شديد، خشية أن تجد نفسها مضطرة للانخراط في سيناريوهات لا تملك السيطرة على مخرجاتها.
ويبقى السؤال المركزي: هل انتهى مشروع المقاومة؟ حماس التي واجهت واحدة من أعنف الحملات العسكرية في التاريخ الحديث قد تُهزم عسكرياً، وقد تتحول من تنظيم إلى فكرة، من قوة ميدانية إلى رمز سياسي. لكن الأفكار لا تُهزم بالقصف، والمقاومة – بأشكالها المختلفة – قد تدخل مرحلة جديدة تتجاوز البنية التنظيمية التقليدية لتتحول إلى حالة وعي عابرة للحدود. إن اختزال القضية في بقاء حماس أو غيابها لا يلغي جوهرها: أن الاحتلال نفسه ما يزال قائماً، وأن جذوة المقاومة لا تزال حاضرة في وعي شعب يرفض الإبادة والاقتلاع.
في النهاية، ما نشهده اليوم ليس مجرد صراع سياسي، بل لحظة حاسمة لإعادة هندسة فلسطين والقضية الفلسطينية. الضغوط الدولية المتنوعة، تحركات أوروبا المتسارعة، الفراغ العربي المقلق، والصعود التركي الملتبس، جميعها تعيد رسم الموازين بعيداً عن العدالة والحقوق الوطنية. الواقع المرير يقول إن الدول العربية الرسمية لن تتحرك، وأن المبادرات الحقيقية غير موجودة، فيما الفلسطينيون وحدهم يدفعون الثمن باهظاً، في شكل تهجير، تهميش سياسي، وتآكل تدريجي للحقوق. المقاومة الوطنية، الرموز، والأفكار، قد تبقى حية، لكنها تواجه معركة غير متكافئة ضد آلة سياسية واقتصادية وأمنية ضخمة، تهدف إلى تحويل المشروع الوطني إلى إدارة شكلية بلا سيادة. إنها لحظة يقف فيها الفلسطينيون وحدهم، والعرب مجرد شهود، فيما العالم يعيد كتابة قواعد اللعبة على حسابهم.