facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في الـمَعْقِدِ والـمَنْبَت: رحلةُ العلم بين الانضباط والتحرر


أ.د احمد منصور الخصاونة
02-09-2025 09:43 AM

ها هي الشوارعُ تعودُ إلى إيقاعها الحادّ بعد أن لانتْ خلالَ العطلةِ قليلاً. ها هي الحافلاتُ تتحركُ في الصباح الباكر حاملةً الأملَ والكتبَ معاً. ها هو ذلك المشهدُ الذي يتكررُ كلَّ عام، لكنه يحملُ كلَّ مرةٍ وعوداً جديدةً، وأحلاماً متجددةً، ومسؤولياتٍ ليست كتلك التي مضت. العطلةُ التي انقضتْ كانت ضرورةً للنفوس، لكنّ العودةَ إلى المدارسِ والجامعاتِ هي ضرورةٌ للأمة.

إنَّ الوطنَ، بمفهومه الشامل، لا ينتظرُ من أبنائه عمالاً ومهندسين وأطباءً فحسب، بل ينتظرُ إنساناً جديداً، يُحسنُ إدارةَ الوقت، ويُقدّرُ قيمةَ النظام، ويُدركُ أنَّ الحريةَ الحقيقيةَ لا تولدُ إلا في رحمِ الانضباط. فالدعوةُ إلى أن تكونَ المؤسساتُ التعليميةُ أشبهَ بمعسكراتٍ عسكريةٍ في نظمها، ليست دعوةً إلى القسوةِ أو القمع، بل هي دعوةٌ إلى فهمِ معنى "الانضباطِ" كفضيلةٍ تمنحُ الإنسانَ القدرةَ على تحقيقِ ذاته. فالجنديُ في المعسكرِ لا يُقيدُ حريته، بل يُهيئها لتحقيقِ نصرٍ أعظم. وكذلك الطالبُ، فإنَّ كلَّ دقيقةٍ محسوبةٍ، وكلَّ سلوكٍ مُراقبٍ، هو استثمارٌ لطاقته، وتوجيهٌ لإبداعه، لا كبتٌ له.

وفي هذا السياق، تبرزُ حكمةُ الأقدمين في مقولتهم: "الوقتُ من سيفِ، إن لم تقطعه قطعك". فالوقتُ هنا ليس مجردَ دقائقَ تمرُّ، بل هو رصيدُ الحياةِ نفسه. وهو أشبهُ بسيفٍ ذي حدين: يمكنُ أن يكونَ أداةَ بناءٍ إذا أحسنتَ استخدامه، أو أداةَ هدمٍ إذا أهدرته. والمقولةُ الإنجليزيةُ " Time is more expensive than money" تؤكدُ هذه الحقيقةَ بأبعادها الاقتصاديةِ والنفسية. فالمالُ يمكنُ تعويضه، أما الوقتُ فإذا ذهبَ فلن يعودَ. والفرقُ بينهما كالفرقِ بين رأسِ المالِ والربحِ؛ فربحُ الوقتِ هو العلمُ، ورأسُ المالِ هو الحياةُ ذاتها.

ولكن، لماذا نستثمرُ وقتنا في العلمِ بالذات؟ لأنَّ العلمَ هو الهدفُ الأسمى الذي يُبررُ كلَّ هذا الجهدَ والانضباط. وهو لا يعطي نفسه بسهولةٍ أبداً. لقد قال النظّامُ منذ قرون: "لن يعطيك العلمُ بعضَه حتى تعطيه كلَّك". هذه العبارةُ تحملُ فلسفةً عميقةً عن طبيعةِ المعرفةِ؛ فالعلمُ ليس معلوماتٍ تُختزنُ، بل هو تحوّلٌ وجوديٌّ يتطلبُ من الإنسانِ أن يبذلَ كلَّ ما يملكُ من وقتٍ وجهدٍ وتركيز. إنه عمليةُ تبادلٍ وجودي: أنت تعطي كيانك كلَّه، فيمنحك العلمُ جزءاً من كيانه الأزلي.

وهنا تتجلى المفارقةُ العميقة: فأنت تبذلُ الوقتَ الثمينَ للحصولِ على العلمِ الأغلى، والذي بدوره يمنحك القدرةَ على توسيعِ وقتك، وإثراءِ حياتك، بل وإطالتها معنوياً من خلال الإبداعِ والخلودِ الفكري. إنها دائرةٌ ومتسلسلة ايجابية من العطاءِ والأخذ.

لكنَّ الحلقةَ الأهمَّ في هذه السلسلةِ هم المتعلمون أنفسهم. فهم ليسوا مجردَ أوعيةٍ تمتلئُ بالمعلومات، بل هم حاملو المشاعلِ الذين ينقلون النورَ من جيلٍ إلى جيل. بدونهم، يتحولُ العلمُ إلى نصوصٍ ميتةٍ في الكتب. وهم، بهذا المعنى، أغلى من الوقتِ والعلمِ معاً، لأنهم الجسرُ الحيويُّ بين الماضي والمستقبل، بين النظريةِ والتطبيق، بين الفكرةِ والواقع.

ولذلك، فإنَّ المسؤوليةَ الملقاةِ على عاتقِ المؤسساتِ التعليميةِ هي مسؤوليةٌ جسيمة. على المعلمِ أن يكونَ قائداً حكيماً، لا جندياً قاسياً. وعلى الإدارةِ أن تكونَ داعمةً وموجهةً، لا رقيبةً متسلطة. والانضباطُ المطلوبُ هو ذلك الذي ينبعُ من القناعةِ الداخليةِ، لا من الخوفِ من العقاب. انضباطٌ يُعيدُ للعلمِ هيبتَه، ويُعيدُ للطالبِ كرامته، ويُعيدُ للمؤسسةِ التعليميةِ دورها كمنارةٍ للمجتمع.

فليكن هذا العامُ الدراسيُ الجديدُ عهداً جديداً نعيدُ فيه تعريفَ الانضباطِ على أنه تحررٌ من الفوضى، ونعيدُ فيه تعريفَ الحريةِ على أنها مسؤوليةٌ تجاه الذاتِ والوطن. لنصنعْ من فصولنا مختبراتٍ للإبداع، ومن ساحاتنا مسارحَ للحوار، ومن مكتباتنا خلايا للنشاط الفكري.

صباح الخير أيها العلم، يا شمسَ العقولِ التي لا تغيب.

صباح الخير أيها المتعلمون، يا بناةَ الحضارة، ويا خزّانَ الأمةِ ووقودَ تقدمها.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :