في رحاب المولد النبوي الشريف: ميلاد النور وسبيل الرحمة
أ.د احمد منصور الخصاونة
03-09-2025 09:27 PM
يطلُّ علينا غدًا ذكرُ مولد خير البشريّة، محمد صلى الله عليه وسلم، رسول الله الأمين، نور الهدى، ومصباح الدجى، ومعلّم الإنسانية في قيمها وأخلاقها، فيتجدّد في القلوب يقين الإيمان، وتستنير الأرواح بضياء الرسالة، ويعود بنا الزمان إلى لحظة فاصلة غيّرت وجه التاريخ، يوم بزغ النور في مكة المكرمة، ليبدّد ظلام الجاهلية، ويهتف في الناس: "اقرأ باسم ربك الذي خلق".
إن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف ليس مجرد مناسبة لتلاوة المدائح أو لاستعراض المظاهر، بل هو استذكار لرسالة أخرجت الناس من عبادة الحجر والبشر إلى عبادة رب واحد أحد، من الجهل والضياع إلى نور العلم والرحمة، من الظلم والفوضى إلى العدل والمساواة. لقد كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم فجرًا أضاء دروب الإنسانية، وأسس لقيم الرحمة، والعقل، والتسامح، فصار هاديًا للحيارى، ومرشدًا للتائهين، ومعلمًا للأمم كيف تُبنى الحضارات على أساس الأخلاق والفضيلة، لا على صخب القوة وجبروت السلطان.
في هذا اليوم المبارك، تتذكر الأمة سيرته العطرة، وتستحضر مآثره العظيمة، لا لتكتفي بالاحتفال، بل لتجعل من ميلاده محطة مراجعةٍ ذاتية، نستقي منها العزم، ونستخلص الحكمة، ونسائل أنفسنا: أين نحن من خُلُقه الكريم؟ من حلمه وصبره وعدله وتواضعه؟ وأين موقعنا من وصاياه التي جعلت الإنسان قيمةً مكرّمة، والرحمة شريعة حاكمة في كل معاملات الحياة؟
إن الاحتفاء بالمولد الشريف يحمل في طياته دعوة صادقة للالتزام بتعاليم النبي في القول والعمل، ويدعونا لأن نحوّل سيرته إلى منهج حياة يومية. فالتزمنا بخُلقه في بيوتنا ومدارسنا، وفي مساجدنا وجامعاتنا، وفي مؤسساتنا وأوطاننا، كان ذلك تجسيدًا حقيقيًا لروحه، وإحياءً لمعاني رسالته، ونشرًا للسلام والمحبة بين الناس.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في شتى مناحي الحياة. قدوة للقيادات في حُسن التدبير، وللمربين في سمو التربية، وللآباء في رقة العاطفة،د، وللأمة جمعاء في معنى الانتماء إلى رسالة تتجاوز حدود الزمان والمكان. كانت سيرته مدرسةً متكاملة تعلم الإنسان كيف يعيش بعزة وكرامة، وكيف يحفظ حقوق الناس ويصون كراماتهم، وكيف يوازن بين العقل والروح، بين الدين والدنيا، بين الفرد والمجتمع.
ويُظهر التاريخ أن الأمم حين تبحث عن قدوة، لن تجد أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، نبي الرحمة الذي وحد القلوب على كلمة سواء، وأقام حضارةً امتد شعاعها من المدينة المنورة إلى أقصى المعمورة، حضارةً بُنيت على المبادئ العليا للعدل والمساواة والرحمة، وألهمت الشعوب أن تعتز بإنسانيتها وأن تسعى لخير البشرية جمعاء.
ولعل أعظم ما يميّز الاحتفاء بالمولد النبوي هو التذكير بأن الرسالة الخاتمة ليست ذكرى عابرة، بل منهج حياة. فهو يدعونا لأن نحيي قيم التسامح، ونزرع روح التعاون والتآخي بين أبناء الأمة، وأن نحمل شعلة الخير إلى الأجيال القادمة، لنرسي ثقافة التسامح والسلام، ونستنهض العزائم نحو البناء والنماء، بعيدًا عن الظلم والفوضى، ونعيد للأمة مكانتها الحضارية بين الأمم.
إن المولد النبوي هو مناسبة لتجديد العهد مع النفس، والالتزام بالقيم العليا، ولتأكيد أن الحياة تكون أسمى حين نعيش بالعدل، ونحافظ على الأمانة، وننشر الرحمة، ونجعل العلم والمعرفة ركيزة لكل عمل نؤديه. إنه دعوة لتسخير الطاقات في سبيل الخير العام، والابتعاد عن الأهواء الشخصية، وتحقيق التوازن بين مصالح الفرد والمجتمع، بين الدين والدنيا، وبين الإنسان وخالقه.
سلامٌ عليك يا رسول الله يوم وُلدت، ويوم بُعثت هاديًا ومبشّرًا، ويوم تلقى وجه ربك راضيًا مرضيًّا. سلام على سيرتك العطرة، وعلى رسالتك الخالدة التي تُحيي القلوب قبل العقول، وتضيء النفوس قبل العيون، وتزرع في البشرية أسمى قيم الرحمة، والعدل، والإيمان، والأخلاق الفاضلة.
وفي هذا اليوم العظيم، تتجدد الأمنيات الصادقة للأمة الإسلامية، بأن تعود إلى نهجها الحق، وأن تتفق على الخير، وأن تستمد من النور الذي أشرق من مكة، وامتد من المدينة المنورة، قوة الهداية والقدوة الصالحة. فكل عام والأمة الإسلامية بخير، تتفيأ ظلال ذكراك، وتستضيء بنور هدايتك، وتسمو برسالتك الخالدة، حتى يظل العالم مكانًا يسوده السلام والمحبة والرحمة.