الاستثمار الأجنبي بين شريك متنفذ بلا رأس مال وعبء تتحمله الشعوب
أ. د. هاني الضمور
07-09-2025 04:26 PM
يُنظر إلى الاستثمار الأجنبي المباشر في الخطاب الاقتصادي للدول النامية باعتباره أحد أهم مفاتيح النمو والتنمية. فهو يجلب العملة الصعبة، وينقل التكنولوجيا، ويفتح فرص عمل جديدة، ويوفر موارد تحتاجها الحكومات التي تعاني من ضغوط مالية مزمنة. غير أن هذه الصورة المتفائلة تُخفي وراءها واقعًا أكثر تعقيدًا، حيث يبرز ما يمكن وصفه بـ”الشريك المتنفذ”: ذلك الشخص أو الجهة المحلية التي تدخل في المشاريع الاستثمارية الأجنبية دون أن تقدم فلسًا واحدًا، لكنها تحجز مقعدًا على مائدة الأرباح بفضل قربها من مراكز صنع القرار أو امتلاكها لنفوذ سياسي وأمني لا يُستغنى عنه.
تبدو هذه الظاهرة للوهلة الأولى مجرد استثناء، لكن شواهد كثيرة تؤكد أنها جزء من بنية الاقتصاد السياسي في عدد واسع من الدول النامية. تقرير البنك الدولي حول “مناخ الاستثمار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” الصادر عام 2019 أشار بوضوح إلى أن ارتباط رجال الأعمال بالسلطة السياسية جعل بيئة الاستثمار في هذه المنطقة أكثر هشاشة، حيث تتوزع الفرص الاستثمارية وفق منطق الولاء والنفوذ لا وفق معايير الكفاءة. دراسة أخرى صادرة عن معهد “كارنيغي” عام 2020 حول الاقتصاد المصري بعد 2013، أوضحت أن إدماج رجال أعمال مقربين من مراكز القرار في صفقات كبرى مع مستثمرين أجانب أدى إلى تقويض المنافسة الحقيقية، وتكريس احتكار محدود، بينما ظل العائد على المجتمع ضعيفًا للغاية.
قبول المستثمر الأجنبي بشريك كهذا ليس سرًا محيرًا. في الحقيقة، هو جزء من “التأمين السياسي” الذي يبحث عنه في بيئات محفوفة بالمخاطر. الباحثة الأمريكية سوزان روز-أكرمان في دراستها حول “الفساد والتنمية” تفسر هذه الظاهرة بوضوح: في الدول التي تعاني من ضعف المؤسسات القانونية والرقابية، يلجأ المستثمرون إلى شبكات النفوذ المحلي لتأمين استثماراتهم من التعطيل البيروقراطي أو من تقلبات السياسات. بكلمات أخرى، الشريك المتنفذ ليس قيمة اقتصادية مضافة، بل قيمة سياسية توفر غطاء وحماية.
لكن من يدفع ثمن هذه الحماية؟ الجواب البديهي هو الشعوب والدول. فعلى المستوى المالي، كثير من هذه المشاريع تُضمن بقروض حكومية أو ضمانات سيادية، أي أن الخزانة العامة تتحمل مخاطر الاستثمار بينما ينعم الشريك المتنفذ والمستثمر الأجنبي بالأرباح. وعلى المستوى الاقتصادي، المنافسة الشريفة تُقصى تمامًا، لأن الشركات المحلية غير المرتبطة بالنفوذ لا تملك ذات الامتيازات. والنتيجة بنية اقتصادية مشوهة، لا تولد كفاءة ولا إبداعًا، بل تكرس الريع وتعيد إنتاج الامتيازات.
التاريخ القريب يقدم أدلة دامغة على ذلك. ففي الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، انسحب المستثمرون الأجانب من عدة أسواق ناشئة في غضون أيام، بعد أن حققوا أرباحًا ضخمة، تاركين الحكومات المحلية تواجه الانهيار وحدها. الشركاء المحليون المتنفذون في تلك الأسواق حوّلوا أرباحهم إلى الخارج، بينما غرق الاقتصاد الوطني في بطالة وديون وتراجع نمو. ما حدث في إندونيسيا وماليزيا آنذاك يوضح بجلاء أن الاستثمار الأجنبي غير المنضبط يمكن أن يتحول إلى قناة للهروب لا إلى رافعة للتنمية.
الخطر الاستراتيجي الأعمق هو أن وجود الشريك المتنفذ يحول الاستثمار الأجنبي من فرصة تنموية إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة نفسها. فالأرباح التي يجنيها هذا الشريك من دون جهد تعزز قدرته على تمويل شبكات الولاء السياسي، وتزيد من اعتماده على إبقاء الوضع على ما هو عليه. بهذا يصبح الاستثمار الأجنبي جزءًا من دائرة مغلقة: المستثمر يبحث عن حماية، المتنفذ يوفرها مقابل أرباح، والدولة تفقد قدرتها على صياغة سياسات تنموية مستقلة.
ومع ذلك، ليس الاستثمار الأجنبي في ذاته المشكلة. التجارب الناجحة في شرق آسيا تثبت أن بالإمكان تحويله إلى أداة حقيقية للتنمية. كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، لم تسمح بدخول المستثمر الأجنبي إلا في إطار مشروط بنقل التكنولوجيا وتدريب العمالة المحلية، ولم يكن لأي شريك متنفذ أن يحصل على حصص بلا مقابل. النتيجة أن هذه الاستثمارات ساهمت في بناء قاعدة صناعية وطنية متينة. التجربة الفيتنامية في العقدين الأخيرين تقدم أيضًا درسًا مهمًا، حيث تم ربط تراخيص الاستثمار الأجنبي بمتطلبات تصدير محددة ومعايير واضحة للتوظيف، ما جعل العوائد أكثر توازنًا.
في المقابل، الدول التي فتحت الباب واسعًا للشركاء المتنفذين لم تحقق قفزة تنموية حقيقية، بل ظلت أسيرة تدفقات قصيرة الأمد. الاقتصادي ها-جون تشانغ يصف هذا النمط بـ”التنمية الزائفة”، إذ يخلق انطباعًا بوجود نمو، لكنه في الحقيقة مجرد إعادة تدوير لرأس المال نحو الخارج، مع بقاء الهياكل الإنتاجية المحلية ضعيفة.
الخروج من هذه الحلقة لا يتطلب إقصاء الاستثمار الأجنبي، بل يتطلب إصلاحًا مؤسسيًا يضمن أن الشريك المحلي هو شريك استراتيجي حقيقي، لا مجرد واجهة متنفذة. الشفافية في العقود، وإلزامية نشر الامتيازات الممنوحة، ووضع سقف قانوني يحظر امتلاك حصص بلا مساهمة مالية أو تقنية، كلها خطوات ضرورية. الأهم من ذلك بناء جهاز دولة قادر على التفاوض باسم المصلحة العامة، بعيدًا عن ضغوط شبكات النفوذ الضيقة.
إن استمرار هذه الممارسات يعني بقاء الدول النامية في موقع التابع، تدور في فلك الاستثمارات الأجنبية دون أن تحصد ثمارها الحقيقية. أما كسر الحلقة فيفتح المجال أمام استثمار أجنبي قادر على أن يكون أداة تنمية حقيقية، لا مجرد وسيلة لإثراء قلة صغيرة على حساب الأغلبية.