الغموض البناء في رحلة الأردن مع الضفة الغربية ولحظة إلقاء الأوراق
سامح المحاريق
08-09-2025 01:40 PM
تعمل دائرة المتابعة والتفتيش على التأكيد على ضرورة استخراج الأردنيين الذين كانوا مواطنين في الضفة الغربية، ولديهم ما يسمى بتصاريح الاحتلال، الأوراق الثبوتية اللازمة في الأراضي المحتلة، وتتمثل في الحصول هوية تصدرها حاليًا السلطة الوطنية، بعد موافقة من الجانب الإسرائيلي.
الفكرة الجوهرية من الإجراء هي تعزيز الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث يدور صراع حول المواطنين الذين أنتجت وجودهم إعلان فك الارتباط أو العلاقة كما يصحح الأستاذ حسين الرواشدة في مقال له نشره قبل أيام.
أرادت إسرائيل دائمًا أن تضع العراقيل أمام دخول الفلسطينيين للأراضي المحتلة، فكانت تطلب من حملة البطاقات الصفراء، وهم الأردنيون الذين يعتبرون أو اعتبروا في مرحلة سابقة من سكان الضفة الغربية، مرة على الأقل كل ثلاث سنوات، وإلا فقدوا حقهم في الدخول إلى الضفة، وكان الأمر يشكل عبئًا كبيرًا خاصة على المغتربين في دول أخرى، إلا أن الإجراءات أصبحت أكثر واقعية وقبولًا بعد اتفاقية أوسلو، حيث أصبح ممكنًا لحملة التصاريح التغيب لسنوات مع بقائهم قادرين على دخول الأراضي الفلسطينية، وبقيت مسألة الأولاد الذين يولدون في الخارج، ويجب تسجيلهم قبل وصولهم إلى سن السادسة عشر، وهو ما يتطلب زيارة الأراضي الفلسطينية والانتظار لأيام حتى إضافتهم إلى الهويات التي صدرت سابقًا لذويهم.
هذه الحالة أنتجت فئتين أساسيتين، من يقيمون داخل الأردن بصورة دائمة، وعندما يزورون الأراضي الفلسطينية يعتبرون ضيوفًا في زيارة تقصر أو تطول، مع بقاء مفردات حياتهم كاملةً متعلقة بالأردن، وفئة تقيم في الضفة الغربية وتزور الأردن من وقت إلى آخر من أجل المحافظة على جنسيتها الأردنية.
في دائرة المتابعة والتفتيش قصص كثيرة، وبعضها يدفع للتعاطف والأسى، وداخل هذه الدائرة تعلمت في مرحلة ما أن بعضًا من القضايا تكون جميع الأطراف فيها ممسكة بطرف من الحق، ومعبرة عن شيء من الحقيقة، فلا وجود لأبيض أو أسود في منطقة رمادية للغاية، ترتبط بصراع تاريخي من ناحية، وبحياة مئات الآلاف من البشر من ناحية أخرى.
كان وجود الضفة الغربية تحت السيادة الأردنية تدبيرًا سياسيًا يستهدف عدم الانفراد الإسرائيلي بأدوات الهندسة الاجتماعية القائمة هناك في مرحلة ما بعد الاحتلال في 1948، خاصةً وأن الفكرة الثورية الفلسطينية لم تكن تشكلت إلا بعد ذلك بسنوات، والواقع أن القيادات الفلسطينية المتصارعة كانت تفتقد الرؤية والخبرة نظرًا لأن البريطانيين لم يمكنوا الفلسطينيين من تجاوز فكرة الحكم المحلي خلال سنوات الانتداب، وكان الحاج أمين الحسيني يدرك أن علاقته مع العالم، باستثناء بعض الأطراف العربية، شبه مقطوعة وتخضع لفلترة وسيطرة بريطانية، ولذلك توجه في أسوأ قراراته لمقابلة الزعيم النازي أدولف هتلر، وهو الأمر الذي أعدمه سياسيًا بصورة مبكرة، ولكنه لم يقتنع بأن يخلي مكانه لقيادة أكثر قدرة على التواصل، وحنكة في التعامل مع المعطيات المعقدة التي سادت قبيل النكبة وبعدها.
التمدد الأردني في السيادة على الضفة الغربية كان يحقق مصلحة استراتيجية للأردن، فالأفضل أن تتواجد مهما كانت ظروف التواجد على أن تصبح الضفة صندوقًا أسودًا على حدوده مع تحمله لاحقًا أن يكون الرئة الحيوية للوجود الفلسطيني هناك، والواقع أن وجود الأردن تمكن من تقييد إسرائيل لسنوات طويلة، فكان يشكل عبئًا وتكلفةً عليها، ولو أعفيت إسرائيل منذ البداية من هذا العبء لأصبح الأردن في مدى أهدافها لأنها تسعى لتحقيق خطوة ثم مباشرة التفكير في الخطوة التالية، ويمكن تخيل الوضع في حالة حدوث الحرب في يونيو 1967 من غير وجود الضفة الغربية تحت السيادة الأردنية، كما لنا أن نتخيل عدم قدرة الأردن على التواجد في الضفة، ولو بصورة الشريك والحليف في ترسيم واقعها ومستقبلها، أعتقد أن الإجابة أتت واضحةً في الخريطة التي قدمها وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش قبل بضعة أشهر.
مواطنو الضفة الغربية من الأردنيين ليسوا ثغرة وجودية في الأردن، على العكس من ذلك، في ظل طيف السيناريوهات الماثل أمام المنطقة يعتبرون ورقة أردنية يمكن استثمارها بصورة إيجابية، وهذه مسألة لأجهزة الدولة أن تناقشها ضمن رؤيتها، خاصة أنه فكرة أن تصبح الضفة جزءًا من الأردن لم تعد قائمة أو مطروحة أو ممكنة.
الأردن لقمة غير سائغة أمام إسرائيل، هذه ليست كلمات عاطفية، ببساطة لم يصل الأردن إلى حالة السيولة والتفكك التي وصلتها سوريا مثلًا ليصبح جنوبها مشاعًا أمام الجيش الإسرائيلي، ولا توجد أي مؤشرات يمكن القول بأنها يمكن أن تغير هذه الوضعية القائمة، مع أنه لا يمكن الإقرار بأن بعضًا من الجهات تسعى إلى طرح الكثير من الموضوعات بأساليب متباينة وجميعها يمكن وصفه بأنه يشبه كثيرًا السلوكيات التي سادت في الأربعينيات والخمسينيات ليس إلا، فالمعلقون المشتبكون على مواقع التواصل، والذين أصبحوا يشكلون عبئًا على الأجهزة الأمنية التي تلاحقهم باتهامات تتعلق بالوحدة الوطنية، لا يمتلكون المعرفة الكاملة بالتفاعلات الدولية وتفاصيل كثيرة تطرح للدراسة، ومن يتصور وجود حلفاء استراتيجيين للأردن غير الأردنيين أنفسهم فهو لا يدرك كيف تتغير المعادلات الدولية.
تعلم الأردن درسًا كبيرًا في الأيام الصعبة قبل حرب حزيران 1967 وبعدها، ولنقل إن الملك الحسين كان يدرك مدى اضطراب حسابات الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أنه لم يكن أمامه سوى التوجه إلى القاهرة وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك قبل الحرب بأيام، وبذلك أصبح الأردن طرفًا في الحرب، ولم يكن يمكنه أن يفعل غير ذلك لأسباب تتعلق بالداخل الأردني ومحيطه العربي الذي تمكن التأثير الدعائي المصري من إخضاعه معنويًا وعاطفيًا.
الخسارة كانت فادحة سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا بالنسبة للأردن، وكثيرًا ما تحدث عبد الناصر للملك الحسين داعيًا لأن يتدبر استعادة الضفة بأي تكلفة، ومهما كانت الأقاويل التي ستثار حوله.
كنت ذكرت في فقرة سابقة، أن بعضًا من القضايا لا تكون بين الصواب والخطأ، هذه قضايا بسيطة وواضحة يمكن لأي طفل أن يبدي رأيه بخصوصها، ومشكلة الأردن في علاقته مع القضية الفلسطينية كانت في مدى إنتاجية قراراته، وكلها كانت بين سيء أو أسوأ أو حالة من الصواب والرضا المرحلي سيترتب عليها تكلفة عالية في المستقبل، واعتبارات أخرى كثيرة.
اضطر الأردن إلى إعلان فك الارتباط/ العلاقة مع الضفة الغربية في 1988 وتقدم الفلسطينيون ليعلنوا الدولة الفلسطينية في نوفمبر 1988 وكانت نقطة تحول كبيرة من خطاب التحرير الثوري إلى خطاب السلام القائم "على العدل واحترام الحقوق"، وهو ما لم يتحقق، ولا يبدو أنه يمكن تحقيقه في أي وقت من المستقبل.
الحسابات الواقعية في الأردن كانت ترتبط بأرضية قانونية تتعلق بواقع معين، وهي الاحتلال لأراضٍ أردنية في حزيران، في المقابل، كان ياسر عرفات يفكر في الفلسطينيين الموزعين حول العالم والبحث عن موطئ قدم يبقي فلسطين قائمة، وفي النهاية، لم يبقى العصفور في اليد، ولا العشرة على الشجرة، ببساطة، أصبح الأحد عشر عصفورًا في القفص الإسرائيلي.
قبل أيام حلقت طائرات عسكرية أردنية تحمل الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عمان ليتوجه إلى لندن، في رسالة مهمة يبدو أن الأردن أصر على تمريرها وعلى تمكين عباس من الوصول إلى لندن في هذه المرحلة، علمًا بأن إسرائيل رفضت في شهر نيسان أن تمنح السلطة الوطنية الإذن بسفر الرئيس الفلسطيني بنفس الطريقة ليتوجه إلى دمشق، ولكن لم يكن للطرفين الأردني والفلسطيني الإصرار على هذه الخطوة إلا بضغوط كبيرة مارستها عمان ووضعت وراءها ثقلًا سياسيًا كبيرًا.
هذه العلاقة تدلل على أن التمهل في شأن تنظيم أوضاع الضفة الغربية مع الأردن كان يعكس استراتيجية للغموض البناء، فهذه الورقة لم يكن لتترك بالكامل أو يقبض عليها في أي مرحلة سابقة، ولا يبدو أن وضعها اليوم على الطاولة في ظل فوضى وسيولة عالمية أمر لا يتصف بالحكمة.
التخوف على الأردن من الضفة الغربية وتكلفتها تجاه السعي إلى طرحها على الطاولة تجاه حسم معين يعني إغفالًا لحقيقة بسيطة مفادها أن القضية الفلسطينية تتوزع بين محورين أساسيين، وهو الصراع مع إسرائيل حول الحقوق الفلسطينية وهذا صراع يقوم على أسس أخلاقية وقومية، والصراع بين الأردن وإسرائيل، لأن إسرائيل كيان توسعي في المنطقة يمارس النزوية السياسية وسلوكيات ترحيل المشكلات وتصديرها للآخرين، وهذا صراع أردني – إسرائيلي، بغض النظر عن إعلان الدولة الفلسطينية مثلًا، فهي تعطي هامشًا واسعًا للأردن، ولكنه لا ينهي الصراع مع إسرائيل، يمكن في أفضل أحواله أن يتحول إلى تنافس قلق ومحمل بعدوانية مبطنة.
في هذه المرحلة لا يبدو أن طروحات طموحة ستكون مفيدةً للأردن، ولكن التراشق العشوائي واستعراض الحيرة والمقاربات القائمة على المثالية وافتراض ثبات بقية العوامل جميعها لا تخدم الدولة التي خاضت تجربة مائة عام وخرجت من تحديات كبيرة استهدفت استقرارها ونموذجها الخاص.
وضعت الدولة الأردنية نفسها على خارطة العالم بقرارات قامت على اللا – مفهوم في وقتها ليتضح أنها كانت رؤية بعيدة المدى لما هو حقيقي وسط الصخب الذي يتخذه التحشيد والانفصال عن الواقع واللا – مؤسسية في دول أخرى.
في هذه المرحلة لا أعتقد أن موضوعًا مثل الضفة الغربية يجب أن يذهب إلى التداول غير البناء، ولكن يجب بناء استراتيجية تواصل مختلفة تقوم على لقاء الأطراف المعنية، وجميعها أعتقد أنها حريصة بطريقتها الخاصة، والمطالبة بوجود قيادات مجتمعية من مختلف الأوساط تساند خطاب الدولة وتدعمه، لأن انتظار تشكل وسط حزبي فاعل وناضج يبدو أمرًا أبعد مما يمكن انتظاره على مشارف لحظة إلقاء الأوراق في المنطقة، وغير بعيد عن الأردن.
(قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)
صدق الله العظيم