" مراجعة الذات الجَمْعِيَّة " الصندوق الأسود
د. كفاية عبدالله
24-09-2025 12:52 AM
ثمة فرق بين من يختار أن ينظر من النافذة، ومن يكتفي بالمرآة.
الأول يرى بعيون الآخرين، ويستعير بصيرته من تجاربهم، فيدرك أن الرأي المختلف ليس خصومة، بل فرصة للغنى والمعرفة. أما الثاني فيظل أسير صورته المنعكسة، يسمع صداه أكثر مما يسمع صوته الحقيقي.
وبالمثل، هناك من يسمع نفسه فقط فيغلق على أفكاره، ومن يفتح أذنه للآخرين فيغتني بخبراتهم وتجاربهم. وهذه المقاربة تنطبق على أي منظومة: إما أن تكون مفتوحة على المشاركة، أو تبقى أسيرة صدى نفسها، لا تسمع إلا صوتها، ولا ترى إلا انعكاسها.
وإن المجتمعات التي تنجح ليست بالضرورة تلك التي تبتكر الجديد دومًا، بل التي تتقن صناعة "الجيد" (Good): الجيد للمواطن، الجيد للموظف، الجيد للمؤسسة، والجيد للمجتمع.
ولا نبالغ إذا قلنا إن النجاح قدر مشترك؛ إما أن نربح جميعًا أو نخسر جميعًا. فلا مجال لإقصاء أحد، فالتنوع ليس رفاهية، بل هو عين القوة، والاختلاف فرصة لتوسيع زاوية الرؤية واكتشاف ما يغيب عن مرآتنا الخاصة.
ما ينقصنا اليوم ليس قلة الأفكار، بل قلة النفس الطويل. استعجال الثمار قبل أن تنضج يحرمنا من قوتها. فالقفزات والوثبات لا تجدي إن لم تكن هناك قاعدة متينة من ثقة الناس وقناعتهم. إن الثقة هي التربة التي تنبت فيها كل فكرة، والأساس الذي ينهض عليه كل إصلاح.
ومن أكبر العثرات التي تعيق أي مسعى للإصلاح: الإقصاء والاستخفاف بمعرفة الآخرين. البعض يظن أن الذكاء حكر على موقعه، وأن الفطنة لا تكون إلا حين يكون التوقيع الرسمي حليفه. بينما الحقيقة أن الحلول العملية تنبت غالبًا من الميدان، حيث ينخرط الفنيون في التفاصيل اليومية. والإقصاء لا يولّد قوة، بل يضاعف الهشاشة، ويغلق النوافذ التي تتيح رؤية أوسع وأعمق.
النجاح الحقيقي لا يُحتكر؛ إنه للجميع أو قدره ألّا يكون. كما أن سفينة الإصلاح لا تنجو إذا ثُقب أحد جوانبها، ولا ينجو طابقها الأعلى إن كان قاعها هشًّا. لذا فالمشاركة ليست ترفًا، بل ضمانة للاستدامة. والمشاركة تعني أن جميع أصحاب المصلحة—المواطن، الموظف، الفني، والإداري—معنيون بها، بل هم جزء من الحل. إن سماع صوت الجميع يؤهلنا للوصول إلى حلول أعمق وأكثر واقعية.
المشاركة لا تعني فتح الأبواب للاستماع فحسب، بل إعادة هندسة العملية برمتها بحيث يكون المواطن شريكًا في التصميم، لا مجرد متلقٍّ للنتائج، ولا مشاركة شكلية لأجل تعبئة قوائم حضور أو الوفاء بالتزامات خارجية. جوهر الثقة أن يشعر كل فرد أن الحكومة ليست جهة مقابلة، بل شريك في صناعة مستقبل مشترك.
ومع ذلك، ما زلنا نعاني من "منهجية الشلال"، التي تفترض أن الحلول تهبط من الأعلى إلى الأدنى، وأن المعرفة حكر على قمة الهرم. بينما المنهج الرشيق القائم على إشراك الجميع منذ البداية، وتجريب الحلول وتعديلها باستمرار، هو الكفيل بتحقيق نتائج ملموسة ويؤكد أن التغيير ممكن ومستدام.
أسلوب العمل الحكومي لا يُقاس بعدد القرارات ولا بحجم التشريعات، بل بقدرة المنظومة على كسب ثقة الناس، وعلى تحويل القرارات إلى نتائج ملموسة في حياتهم اليومية. فما جدوى الأرقام والتقارير إن بقيت حبرًا على ورق؟ المقياس الوحيد الذي يصمد أمام اختبار الزمن هو: هل تغيّرت حياة الناس نحو الأفضل؟
إعادة مراجعة الذات الجَمْعِيَّة تبدأ بالاعتراف بأن المعرفة لا حكر عليها أحد، وأن الأفكار ليست مقصورة على منصب أو رتبة. هي متاحة لكل من يسعى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾. والمعرفة نصيب كل من يشارك ويستمع ويبتكر. النجاح المشترك يبدأ بوضوح الغايات، وتحديد توقعات منطقية، وتقديم حلول تتجاوز حدود الهياكل الضيقة، عبر خطوات مبسطة لا تهدر الطاقات.
الرشاقة في العمل ليست رفاهية، بل ضرورة، والوضوح في القرار ليس ترفًا، بل أداة لبناء الثقة. والثقة وحدها هي الركيزة التي يقوم عليها الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري.
إنها معادلة واضحة: إقصاء فرد واحد أو الاستعلاء على خبراته يعني إضعاف الجميع. الإقصاء خيانة للقدرة الجَمْعِيَّة، وتبديد للطاقات، وهجرة الكفاءات. ونؤكد أن المشاركة شرط للنجاح المشترك. النجاح هو خيارنا الوحيد، وهو ضرورة قبل أن يكون رفاهية… إنه عقيدة وأسلوب حياة.