أوروبا تقول نعم .. والأرض تقول لا
د. سعيد المومني
24-09-2025 02:18 AM
حين ارتفع العلم الفلسطيني في سماء لندن، بدا المشهد أكثر من مجرد إجراء بروتوكولي؛ كان حدثاً يختصر قرناً من التناقضات: بريطانيا التي أعطت وعد بلفور بلا شرعية، هي نفسها التي تعترف اليوم بفلسطين وترفع علمها رسمياً. هذه المفارقة لا تُقرأ باعتبارها تحولاً عاطفياً في الموقف الأوروبي، بل كترجمة لمسار طويل من التداخل بين نضال الشعب الفلسطيني وتحوّلات النظام الدولي.
فالاعتراف الأوروبي لم يكن وليد قاعات الدبلوماسية وحدها، ولا نتيجة حراك فلسطيني معزول، بل هو نتاج تفاعل معقّد بين تضحيات شعب أبقى قضيته حيّة رغم كل محاولات الطمس، ودبلوماسية التقطت اللحظة وحوّلتها إلى مكسب سياسي. ومع ذلك، تبقى الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر هي اللحظة التي كسرت جدار الصمت الغربي، ودفعت الرأي العام الأوروبي إلى الضغط على حكوماته، بعدما انكشفت جرائم الحرب بالصوت والصورة أمام شعوب لم تعد تبتلع الرواية الإسرائيلية بسهولة.
لكن الاعتراف لا يمكن فصله عن توازنات القوى الكبرى. أوروبا التي ظلت لعقود تدور في فلك السياسة الأميركية، وجدت في الملف الفلسطيني فرصة لإبراز استقلاليتها، في ظل خلافات متصاعدة مع واشنطن حول أوكرانيا وأولويات الأمن العالمي. ومن هنا، يصبح الاعتراف أيضاً رسالة سياسية موجهة للبيت الأبيض بقدر ما هو تضامن مع الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن صلابة هذا التحول ستظل موضع اختبار: فهل ستصمد أوروبا على موقفها إن عادت التفاهمات مع واشنطن؟
هذا التحول الأوروبي لم يولد في فراغ، بل تَغذّى من حراك عربي متراكم. لكن اللحظة الفاصلة جاءت من الرياض؛ فالسعودية التي كانت على أعتاب تطبيع تاريخي مع إسرائيل، ربطت مسار التطبيع بوجود أفق حقيقي للدولة الفلسطينية، وهو ما التقطته العواصم الأوروبية ونسجت حوله مبادراتها الأخيرة، لا سيما مع باريس التي سعت إلى بلورة الموقف الأوروبي وتحويله إلى اعتراف رسمي. يمكن القول إن الأردن حافظ على الفكرة حيّة لسنوات طويلة، لكن السعودية وفّرت الزخم الذي جعل أوروبا تتحرك من مربع التعاطف إلى مربع الاعتراف.
في المقلب الإسرائيلي، لا يلوح في الأفق أي تيار سياسي يملك شجاعة الذهاب نحو تسوية حقيقية. فالمعارضة هناك لا تعارض مشروع السيطرة على الفلسطينيين، بل تختلف حول كيفية إدارته ومن يملك زمام السلطة. والتهديدات المتكررة بضم الأغوار ومناطق (ج) في الضفة الغربية تكشف حقيقة الموقف: إسرائيل لا ترى في الاعترافات الأوروبية سوى أصوات احتجاجية، يمكن تجاوزها عبر فرض الأمر الواقع على الأرض.
هنا تبرز الحقيقة القاسية: الاعترافات تمنح فلسطين حضوراً سياسياً وقانونياً متزايداً، لكنها لا توقف جرافة في مستوطنة، ولا تمنع طائرة من قصف غزة. السيادة تُنتزع بالوجود الفعلي، والشرعية الدولية تبقى مجرد ورقة ما لم تُسند بقدرة على فرض معادلات على الأرض.
لكن التباين الأوروبي يبرز أيضاً في ازدواجية المعايير؛ فبينما تعترف بعض الدول بدولة فلسطين وتدعو إلى حل الدولتين، فإنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات استراتيجية متينة مع إسرائيل. فرنسا وإسبانيا، على سبيل المثال، أعلنت اعترافها بفلسطين، لكنها مستمرة في تعزيز علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، بريطانيا تعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية لكنها في الوقت ذاته تزوّد إسرائيل بالسلاح والدعم الأمني. إيطاليا رفضت الاعتراف الفوري، ألمانيا أكدت أن حماية أمن إسرائيل جزء من “جوهر الدولة الألمانية” هذا المزيج يُظهر حجم التناقض بين الخطاب الرسمي والأفعال الميدانية، ويؤكد أن أوروبا ليست كتلة واحدة، وأن الاعترافات الرمزية غالباً ما تتقاطع مع مصالح استراتيجية أوسع، مما يُضعف مصداقية المواقف ويكشف حدود قدرة أوروبا على فرض التزامات حقيقية على إسرائيل.
قد يرى البعض في هذه الموجة مجرد مناكفة أوروبية لسياسات واشنطن أو استجابة ظرفية لغضب الشارع الغربي. ومع ذلك، مهما كانت الدوافع، فقد دشّنت مرحلة جديدة: فلسطين لم تعد قضية خارج الزمن الغربي، بل أصبحت جزءاً من النقاش السياسي الداخلي في أوروبا، من الجامعات والشوارع إلى البرلمانات، وهو تحول نفسي وسياسي لا يمكن التراجع عنه بسهولة.
ورغم ذلك، يبقى الاعتراف هشّاً بطبيعته، ولا يجوز التعويل عليه كأداة ثابتة. فالمصالح الاستراتيجية في المنطقة والعالم يمكن أن تتبدل بسرعة، والحكومات الأوروبية نفسها عرضة لتغييرات مفاجئة. انتخابات قادرة على تغيير وجه فرنسا أو بريطانيا أو أي عاصمة أوروبية قد تعيد ترتيب المواقف تجاه إسرائيل وفلسطين. لذلك، يبقى الاعتراف خطوة رمزية هامة، لكنها ليست ضمانة، والقدرة على تحويل هذه الرمزية إلى قوة حقيقية تظل رهناً بالتحرك العربي والفلسطيني الجاد والمستمر، وبالاستراتيجية الذكية التي تحوّل الرمزية إلى أدوات ضغط واقعية على الأرض.
أوروبا تقول نعم، لكن الأرض تقول لا. رحلة طويلة لم تصل بعد إلى نهايتها. أعلام تُرفع واعترافات تُعلن، بينما الواقع على التراب يصر على الحقيقة: لا حرية بلا سيادة، ولا وعد بلا عدالة. في النهاية، الكلمات الأوروبية لا تغير ما لا تغيره الأرض… الحقيقة باقية هناك، حيث يعيش الشعب ويناضل. والسؤال الذي يظل مفتوحاً: هل سنحول الرمزية إلى واقع، أم سنتركها عابرة، تذوب في هواء لندن البارد؟.