"هندسة الشغف" .. الصندوق الأسود (27)
د. كفاية عبدالله
06-10-2025 09:41 AM
يُقال إن الشغف يولد مع الإنسان، لكنّي أؤمن أنه يُهندَس كما تُهندَس المعاني في العقول، ويُصاغ كما تُصاغ القيم في النفوس.
فالشغف لا يهبط صدفة، ولا يتبخّر بخذلانٍ ممنهج، بل يتجلّى حين يختار الإنسان أن يأخذ موقعه في التاريخ ويكون وفيًّا للأوطان، مهما تغيّر ما كان وما يكون وما يحاك وما يدور.
في المؤسسات، كثيرون ينتظرون وحياً من السماء لنزول القائد الملهم الذي يخلص البيئات من براغيث الظلم ويعمل على رفع المعنويات، غير أن احتمالات ذلك قليلة، والحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
فالشغف لا يُصنع من التحفيز الخارجي ولا من الحماس اللحظي، بل من تفاعلٍ عميق بين المعنى، والفهم والجمال، والتمكين.
إنه حالة جمعية للجميع من الانسجام الداخلي بين ما نفعله، وما نؤمن به، وما نشعر به تجاه ما ننجزه، باختلاف المستويات الإدارية والمؤهلات العلمية والمواقع الوظيفية.
فما يوقظ الشغف ليس تصفيق الآخرين، بل ذلك النبض الخفيّ حين يلتقي الفهم بالجمال والمعنى بالفعل، فيولد الإتقان كزهرةٍ من ضوء.
في جذره دهشةٌ حسّية؛ تنبض حين يرى الإنسان الجمال في ما يصنعه، أو يجد حوله نظامًا منسجمًا، أو احترامًا يعيد إليه شعوره بالكرامة.
فالجمال ليس ترفًا بصريًا، بل هو الشرارة التي توقظ الحواس وتنعش الرغبة في العطاء، لأنه يعيد للعامل إحساسه بأنه جزء من كلٍّ أنيق حيّ، لا مجرد ترس في آلة صماء.
ثم يتحوّل الشغف إلى تمكّنٍ فعّال؛ حين تتسق الأدوات مع الغاية، وحين يشعر المرء أن نظام العمل يعمل معه لا عليه، وأن جهده منظم، وجهده يُثمر ويقدر.
فالشغف لا يعيش في العجز، بل في الحرية التي تولد من الكفاءة. حين يتذوق الإنسان طعم الإتقان، يحبّ عمله لأنه يراه انعكاسًا لقدراته لا عبئًا عليها.
ويبلغ الشغف قمّته حين يصبح إيمانًا ومعنى؛ حين يرى الإنسان في عمله رسالة تتجاوز الذات، وعهدًا بينه وبين ضميره ووطنه.
عندها لا يعود الشغف مزاجًا متقلّبًا، بل عقيدة داخلية تتجذر في الروح وتستعصي على الخيبات.
فهو لا ينتظر بيئةً مثالية أو مديرًا ملهمًا، لأنه ينبع من قناعة راسخة بأن خدمة المعنى والأوطان أسمى من رضا الأشخاص.
ثمة ما هو أعمق من الرواتب، وأبعد من التحفيز المؤسسي، وأشد رسوخًا من المديح اللحظي… إنه الشغف، تلك النار الهادئة التي لا توقدها الشعارات ولا تطفئها البرودة الإدارية.
الشغف ليس هِبَة تُمنح، ولا طاقة تُحقن في صباحات العمل، بل هو عقيدة داخلية، تتجذر حين يلتقي المعنى بالتمكّن بالجمال في معادلة واحدة.
في بدايته، دهشة حسّية: لحظة انبهار بالجمال حين تنسجم التفاصيل، أو تتناغم البيئات فتُشعر الإنسان أنه جزء من شيء أنيق، حيّ، ومفعم بالاحترام.
الجمال هنا ليس ترفًا، بل نسغ الحياة في كل منظومة؛ إنه ما يوقظ الحواس ويعيد للإنسان إنسانيته داخل البنى الصلبة التي تحاول اختزاله إلى رقمٍ في ملف.
ثم يتحوّل إلى حركة فاعلة؛ حين يشعر الفرد أنه ممكَّن، أن أدواته تعمل معه لا عليه، أن نظامه الإداري لا يثقل كاهله بل يحرّره ليتقن.
فالشغف لا يعيش في العجز، بل في التمكّن؛ حين تثمر الكفاءة عن لذة، ويولد الحبّ من الإتقان، لا من التكرار.
ويبلغ قمّته حين يصير إيمانًا ومعنى؛ عندما يرى الإنسان عمله امتدادًا لرسالته، حين لا يعود ما يفعله مجرّد تكليف بل عهدٌ مع ذاته ووطنه، عهدٌ على الإخلاص والإتقان، مهما تبدلت البيئات وضاقت المساحات.
لهذا، فالشغف ليس رهينة أسلوب إدارة، ولا ضحية بيئة مثبّطة، بل إيمانٌ والتزامٌ ومسؤوليةٌ ذاتية.
هو عقد غير مكتوب بين الإنسان ووطنه، بأن يزرع المعنى في عمله ولو جفّت الأرض من حوله.
الهندسة الحقيقية للشغف لا تبدأ من الأنظمة، بل من وعي الفرد بأنه مسؤول عن إحياء روحه في العمل كما هو مسؤول عن أداء مهامه.
أن يحبّ ما يصنع لأنه يرى فيه أثرًا، لا مجرد إنجاز رقميّ عابر.
لكن المؤسسات التي تفهم جوهر الإنسان، تعرف أن الحفاظ على الشغف لا يعني هندسته إداريًا، بل صيانته إنسانيًا.
أن تمنحه الأمان قبل التقييم، والاحترام قبل التحفيز.
فالموارد البشرية ليست ملفاتٍ على رفوف، بل طاقاتٍ تنبض إذا صينت.
والإدارة التي ترى الإنسان قبل الوظيفة، هي التي تُحوّل الالتزام إلى انتماء، والانتماء إلى شغفٍ دائم.
الشغف حق لكل إنسان، لا يقتصر على أصحاب المناصب العليا أو أصحاب القبعات البيضاء، بل يمتد إلى العامل الصغير الذي يزرع الأرض أو ينقل الملفات أو يشعل الأنوار في أروقة المؤسسة.
لكل من يعمل بإخلاص، مهما كان موقعه في السلم الوظيفي، الحق في أن يشعر بالدهشة والحماس والتمكّن، وأن يرى في عمله معنى وجمالًا.
الشغف هنا يصبح لغة مشتركة، تنبض في كل يد تعمل، وفي كل قلب يؤمن بأن مساهمته ليست أقل قيمة من أي إدارة كبرى، وأن الإبداع والكرامة لا يعرفان رتبًا أو مسميات.
ومع ذلك، فإن أعظم تهديد يمكن أن يواجه مؤسسة ليس في نقص الموارد ولا في ضعف الخطط، بل في محاولة قتل الشغف.
حين تتحوّل السلطة إلى آلة لترويض الأرواح، ولإطفاء الحماس المتقد في القلوب، ولإقصاء من يعمل بإخلاصٍ لأنه لا يساير الهواء.
فقتل الشغف ليس ظلمًا لموظفٍ فحسب، بل جناية على المستقبل، إذ تُطفأ الأنوار في قلوب من كان بإمكانهم أن يضيئوا مسارات الحياة.
من يمارس هذه الهندسة المظلمة، لا يزرع إلا العقم في روح العمل العام، ويحول الثقة إلى خوف، والانتماء إلى شك، والإبداع إلى روتينٍ بلا روح.
الشغف لا يزدهر في الظلال الثقيلة للسلطة، بل في النور الذي تمنحه العدالة، والكرامة، والاحترام المتبادل بين الناس.
الشغف ليس رفاهية نفسية، بل مسؤولية وطنية.
هو الطريقة التي يقول بها الموظف لوطنه:
"أنا أعمل بشغف، لأنه حق لبلادي ويعبّر عن إيماني بأن الوطن يستحق الأفضل."
وحين يتحول هذا الإيمان إلى ثقافةٍ مؤسسية مستدامة، يصبح الشغف طاقةً جماعية، لا استثناءً فرديًا.
في كل مؤسسة هناك من يشتعل رغم العتمة، من يزرع رغم القسوة، من يعمل بإتقان رغم غياب التقدير.
هؤلاء لا تحركهم الحوافز، بل تحكمهم العقيدة.
يعملون كما لو أن الوطن يراهم في كل لحظة، لأنهم أدركوا أن الشغف ليس امتيازًا يُمنح، بل وعدٌ يقطعه الإنسان مع نفسه.
المؤسسات التي تتقن هندسة الشغف لا تزرعه في الدورات التدريبية، بل في القيم اليومية: في الاحترام، في الحوار، في ثقةٍ متبادلة لا تُكتب في اللوائح.
تدرك أن الشغف ليس ما يحدث للموظف، بل ما يحدث بواسطته.
وحين يتوارث العاملون هذا الإيمان جيلاً بعد جيل، يتحول الشغف إلى سلوك وطني أصيل، لا يحتاج إلى من يشعل فتيله، لأنه ببساطة لا ينطفئ.
الهندسة هنا ليست لتشييد الجدران، بل لترميم المعاني وبناء للأوطان.
أن تُصمَّم المؤسسات لتُبقي الإنسان حيًّا في داخله، لا مجرد ترسٍ في منظومة.
أن تحافظ على جوهر العمل بوصفه رسالة، والشغف عندما يُهندس يكون أعظم وقود له لصيانة المؤسسات وللاوطان حراسة.
* اختصاصي التطوير المؤسسي
(Kifaya2020@gmail.com)