الملك .. صانع السلام الذي يستحق "نوبل" بلا ترشيح
أ.د احمد منصور الخصاونة
11-10-2025 04:15 PM
في عالمٍ تضجُّ فيه الشعارات وتغيب فيه القيم، يقف الملك عبدالله الثاني مثالًا نادرًا لقائدٍ عربيٍّ يجسّد السلام قولًا وفعلاً، ويُكرّس السياسة من أجل الإنسان لا من أجل المجد. فمنذ اندلاع الحرب على غزة قبل عامين، لم يهدأ لجلالته جهدٌ ولا صوت، إذ تحرّك في الميدان السياسي والدبلوماسي والإنساني بكل ما يملك من وزنٍ وتأثير، حاملاً همّ الشعب الفلسطيني ومعاناته إلى ضمير العالم، ومطالبًا بوقف العدوان وإنقاذ المدنيين وإيصال المساعدات إلى القطاع المحاصر.
هذا التحرك لم يكن مجرد ردة فعلٍ عاطفية أو موقفٍ عابرٍ أمام كارثةٍ إنسانية، بل كان امتدادًا طبيعيًا لدورٍ هاشميٍّ راسخ، وامتدادًا لتاريخٍ أردنيٍّ أصيل في الدفاع عن فلسطين والقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية. فالهاشميون، منذ الثورة العربية الكبرى، آمنوا أن لا كرامة للعرب دون عدالةٍ في فلسطين، وأن حماية القدس ليست واجبًا دينيًا فحسب، بل رسالة حضارية وإنسانية متوارثة في الدم والوجدان.
خلال العامين الماضيين، تحرك الملك عبدالله الثاني على كل المستويات: الإقليمية والدولية، السياسية والإنسانية، حتى بات الصوت العربي الأوضح في مشهدٍ صاخبٍ بالمواقف المترددة. تحدّث في الأمم المتحدة، وناشد في القمم العربية والإسلامية، وأرسل المبعوثين إلى عواصم القرار الكبرى، محذرًا من اتساع الحرب ومن الكارثة الإنسانية التي تهدد غزة. ولم يكتفِ جلالته بالبيانات أو الخطابات، بل حوّل الموقف إلى فعلٍ ملموسٍ على الأرض: قوافل إغاثية، مستشفيات ميدانية، جسور جوية وإنزالات إنسانية مستمرة، حملات تبرع شعبية بإشرافٍ مباشر من القوات المسلحة الأردنية، وتنسيق دائم مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لإيصال الغذاء والدواء إلى الأطفال والنساء في القطاع المنكوب.
في كل ذلك، لم يظهر الملك عبدالله الثاني باحثًا عن عدساتٍ أو أوسمة، بل كان يعمل بصمتٍ يليق بعظمة الهدف. فبينما يتسابق قادة العالم إلى المنصات الدولية للمطالبة بجائزة "نوبل للسلام"، يثبت الملك أن الجائزة الحقيقية تُمنح لمن يزرع الحياة وسط الدمار، لا لمن يكتفي بالتصريحات والتغريدات.
إن المفارقة العميقة التي يشهدها العالم اليوم تكمن في أن من يستحق جائزة نوبل للسلام حقًا، هو من لم يسعَ إليها قط. فالملك عبدالله الثاني لم يطرح اسمه في قوائم الترشيحات، ولم يسعَ إلى اعترافٍ دولي، بل ترك أفعاله تتحدث عنه، وترك مواقفه تشهد عليه أمام التاريخ.
حين يدافع عن غزة، لا يفعل ذلك بدافع السياسة، بل من منطلقٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ نابعٍ من عقيدته الهاشمية التي ترى في نصرة المظلوم واجبًا، وفي الدفاع عن الحق شرفًا لا يُشترى.
لقد أصبح الأردن في عهد جلالته صوت الضمير العربي، ومركزًا إقليميًا للتحرك الإنساني، ومثالًا للدولة التي تمارس السياسة كأداةٍ لحماية الإنسان لا لاستغلاله. وحين يتحدث الملك عن السلام، لا يتحدث بلغةٍ ناعمةٍ أو خطابٍ إنشائي، بل بلغةٍ نابعةٍ من تجربةٍ وشجاعةٍ ومسؤوليةٍ أخلاقية. فقد حذر مرارًا من أن غياب العدالة هو الوقود الذي يُغذّي التطرف في العالم، وأن الأمن لا يتحقق إلا إذا كان شاملًا وعادلًا ومستندًا إلى حق الشعوب في الحرية والكرامة.
وفي ذروة الحرب على غزة، كان الأردن الدولة الأولى التي نقلت المساعدات عبر الجو إلى مستشفيات القطاع، رغم المخاطر والتحديات، في مشهدٍ يجسد المعنى الحقيقي للسلام الإنساني: سلامٌ لا يُصنع بالاتفاقيات وحدها، بل بالرحمة والشجاعة والفعل الصادق.
وإذا كانت جائزة نوبل تُمنح تكريمًا للذين يسعون لترسيخ قيم السلام العالمي، فإن الملك عبدالله الثاني يجسد تلك القيم في أبهى صورها.
هو صانع السلام الذي لا يرفع شعارًا دون مضمون، ولا يخوض معركةً دون قضية، ولا يتحدث باسم الإنسانية إلا وقدّم لها دليلًا ملموسًا.
لقد قدّم للعالم نموذجًا في القيادة الهادئة القادرة على جمع المتناقضات: الحزم في الموقف، والرحمة في الفعل، والاتزان في زمنٍ يضجّ بالتطرف والانقسام. وفي الوقت الذي ينشغل فيه كثيرون بتسجيل المواقف أو احتساب المكاسب، يواصل الأردن بقيادته الهاشمية عمله في الميدان، إغاثةً وسياسةً وتنسيقًا، واضعًا مصلحة الإنسان فوق كل اعتبار.
اليوم، وبعد أن خفت صوت المدافع في غزة، يذكّر الأردن العالم أن الحرب لا تنتهي بإعلان وقف إطلاق النار، وأن السلام لا يُبنى إلا على العدالة والحق. ويظلّ الملك عبدالله الثاني، بما قدّمه من ثباتٍ ومبادرةٍ وإنسانية، يستحق أن يكون رمزًا عالميًا للسلام الفعلي لا الرمزي، للقيادة الصادقة لا المسرحية.
إن جائزة نوبل التي يتسابق إليها كثيرون، وجدت في الأردن من جسّد معناها الأسمى. فالملك عبدالله الثاني لم ينتظر "نوبل"، لأن التاريخ منحه جائزةً أعظم: احترام العالم، وامتنان شعبه، وثقة الأمة. وذلك أعظم من كل ميداليةٍ تُعلّق، أو شهادةٍ تُمنح.