حين يرفع الجهل رأسه في صرح العلم
أ.د احمد منصور الخصاونة
17-10-2025 11:50 PM
لا أعلم من أين خرجت تلك المجموعة الهمجية من الطلبة الذين شاركوا في المشاجرة داخل أسوار الجامعة الأردنية، ولا من أي بيت تربّوا، ولا في أي مدرسة صُقلت أخلاقهم، ولا كيف تسللت إليهم ثقافة العنف والتدمير في مكان يُفترض أن يكون منارة للعلم وواحة للأدب والفكر والخلق.
أيّ عقول هذه التي ترفع يدها بدلًا من أن ترفع فكرها؟ وأيّ جيل هذا الذي يرى في الصراخ والضرب وسيلة للتعبير بدلًا من الحوار والعقل والمنطق؟
إن ما حدث ليس مجرد مشاجرة طلابية عابرة، بل هو مشهد مؤلم يعكس عمق أزمة القيم التي باتت تتسلل إلى مجتمعنا بصمت، وتغزو بيئة التعليم التي كنا نفاخر بها الأمم. حين تتحول الجامعة إلى ساحة صراع قبلي أو مناطقي أو فئوي، فإن الخطر لا يهدد مؤسسة بعينها، بل يهدد فكرة الوطن ذاته؛ لأن الجامعة هي مصنع الوعي، وإذا تلوث المصنع، فماذا ننتظر من المنتج؟
لقد بُنيت الجامعات لتكون فضاءات للفكر الحر والنقاش الراقي، لا مسارح للفوضى والعنف. هي ساحات للعلم لا للخصومة، ومصانع للعقول لا ميادين للأيادي. حين تتراجع القيم أمام الغرائز، وحين يُستبدل المنطق بالعصبية، نكون قد أضعنا جوهر التعليم وغايته الكبرى.
لكن ما يزيد الجرح نزفًا هو ما قام به بعض من يسمّون أنفسهم "ناشطين" على وسائل التواصل الاجتماعي. بدل أن يكونوا صوت العقل، تحوّلوا إلى أدوات للفتنة، يتسابقون على نشر مقاطع الفيديو وكأنهم يروّجون لمشهد من مسلسل عبثي لا يدركون خطورته على سمعة الوطن وصورته أمام العالم. أيّ انحدار هذا الذي يجعل من الألم مادة للترفيه، ومن الفوضى وسيلة للشهرة؟ أين المسؤولية الأخلاقية والوطنية في زمن تحوّل فيه الإعلام الرقمي إلى سلاح بلا ضمير؟.
نحن اليوم أمام مسؤولية جماعية، تبدأ من البيت ولا تنتهي عند أسوار الجامعة. فالبيت هو أول مدرسة، والأم والأب هما أول معلمين. وإذا لم تُزرع في الطفل منذ الصغر قيم الحوار والاحترام وضبط النفس، فلن يستطيع أي نظام أكاديمي مهما بلغ تطوره أن يعوّض غياب التربية. إن التعليم بلا تربية كالسلاح بلا عقل، يُحدث ضررًا أكثر مما يُحدث نفعًا.
أما الجامعات، فعليها أن تعيد النظر في أدواتها وأساليبها في التعامل مع الطلبة. لا يكفي أن نُعلّم المناهج ونُقيم الامتحانات، بل يجب أن نُعيد الاعتبار للتربية الجامعية كمنظومة قيم ومسؤوليات وسلوك. على الإدارات الجامعية أن تكون حازمة في مواجهة العنف، صارمة في تطبيق القانون، عادلة في محاسبة كل من يسيء، مهما كان موقعه أو خلفيته. فالتهاون في هذه الأمور ليس تسامحًا، بل مشاركة في الهدم.
وإذا كانت الأسرة والجامعة تتحملان جزءًا من المسؤولية، فإن الإعلام يتحمل الجزء الأخطر. الإعلام الذي يملك سلطة التأثير وصناعة الرأي العام، لا يجوز له أن ينزلق إلى ثقافة الإثارة الرخيصة. نحن بحاجة إلى إعلام وطني مسؤول، يدعو إلى الوعي لا إلى الفوضى، يبني لا يهدم، يربّي لا يثير.
ما حدث في الجامعة الأردنية هو جرس إنذار صاخب، يجب ألا يمر مرور الكرام. فالوطن الذي بنى نظامه التعليمي على القيم والانفتاح والعلم، لا يليق به أن يُختزل في مشهد من الجهل والفوضى. هذا الوطن الذي قدّم آلاف العلماء والمهندسين والأطباء والمبدعين، لا يليق أن يُشوّه وجهه حفنة من الجاهلين الذين أساؤوا لأنفسهم قبل أن يُسيئوا لجامعتهم.
كفى تشويهًا لسمعة جامعاتنا، وكفى عبثًا بصورة التعليم في وطننا، وكفى استخفافًا بعقولنا ومستقبل أبنائنا.
كفى عبثًا بالوطن.
كفى جهلًا..