الدور الأردني والقضية الفلسطينية .. سؤال محوري أم مرحلي؟
د. محمد العزة
18-10-2025 04:43 PM
لا يخفى الأمر على شعوب المنطقة العربية ، سواء الاجيال الشاهدة على العصر ، أو أبناء اليوم ممن تعيشه، أنها شهدت عبر تاريخها الحديث أحداثا وتحولات كبرى، سياسياً و عسكرياً، أعادت رسم خرائط النفوذ الجيوسياسية وحدود الأدوار ، التي فرضت على الدول المجاورة للحدث الأهم ( القضية الفلسطينية مركز الصراع العربي الإسرائيلي) ، وفي مقدمتها الأردن، أن تحدد مدى أهمية ، دورها مرحلياً مؤقتاً أو محورياً مؤثراً في صناعة القرار وتوجيه المسارات؟
السياسة، جوهر مفهومها، فنّ إدارة الفعل و ردة بفعل، الدبلوماسية الأردنية تجاوزت هذه المعادلة التقليدية بثبات الموقف ومرونة الحركة، و بحكمةٍ جعلت التأني سلاحا، و القدرة على التوقيت أداة فاعلة لتحقيق الأهداف دون صدام أو انفعال.
منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر، وما تبعها من حرب دموية على قطاع غزة، التي شكلت أحد أخطر مراحل تعقيدات القضية الفلسطينية، أخلت في موازين القوى داخل معادلة الصراع العربي الإسرائيلي ، أثبت الأردن أنه لا يتعامل مع القضية الفلسطينية كملف موسمي، بل كقضية وجود و واجب وطني وقومي متجذر في عقيدة الدولة .
كان موقف عمان واضحا منذ اللحظة الأولى: وقف الحرب أولوية إنسانية وسياسية لا بديل عنه ، و التأكيد على حل الدولتين لإرساء السلام ، بذل الأردن جهودا مضنية في هذا الاتجاه، عبر اتصالات و تحركات إقليمية ودولية، شكلت انعكاسا لدوره المحوري الحقيقي، لا الاستعراضي. لم يكن حضوره في مشهد التهدئة في قمة شرم الشيخ غائبا، بل كان ماثلاً في خلفية كل تفاهم ، ملما بمضمون كل اتفاق، إذ بنيت عليه معظم الأرضية السياسية التي قامت عليها التهدئة ومسارات ما بعدها.
الدبلوماسية الأردنية، بقيادتها الهاشمية ، كانت وما زالت الحاضنة التاريخية للموقف العربي الثابت من فلسطين ، فمنذ بدايات القرن الواحد والعشرين الحالي ، سبقها اشتباكا مباشرا في أولى عشرينات القرن الماضي ، قدم الاردن الشهداء و الدماء الزكية دفاعا عن ثرى الحمى الاردني و الفلسطيني الطاهر ، حتى يومنا هذا ، ليحمل عبء القضية ، مدافعا عنها و ملتزما بواجب التصدي لتداعياتها ، حقيقة لا ينكرها أحد.
في الحرب الأخيرة، حضر الأردن في كل التفاصيل ، عبر الدعم الإنساني اللوجستي لكسر الحصار الاسرائيلي الظالم للقطاع ، قاد تحرك سياسي عربي دولي منسق، و سخر بناء شبكة علاقات ديبلوماسية أعادت التوازن إلى المشهد الإقليمي ، في حين سعت بعض القوى الإقليمية إلى توظيف الحدث لخدمة أجنداتها ، بقي الأردن صامدا على مبادئه: لا للتوطين، لا للتهجير، نعم لحق الفلسطينيين في أرضهم ودولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
هذا الثبات جعل من الموقف الأردني واجهة الديبلوماسية العربية و مرجعية للقرار المشترك، وقوة في وجه النفوذ الإسرائيلي داخل مراكز صنع القرار العالمي ، ليوازن محاولات فرض الوقائع الجديدة على الأرض.
لقد كان للأردن دورا مؤثرا في تعديل مسار العديد من المبادرات المنحازة، أبرزها مبادرة الرئيس الأمريكي ترامب الأخيرة ، وصولاً إلى اتفاق التهدئة الحالي، الذي يمكن أن يشكل بداية لمرحلة جديدة من الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وكل ذلك نابع من ثوابت السياسة الأردنية الراسخة: دعم صمود الفلسطينيين ومواجهة مشاريع الضم والتهجير القسري أو الناعم.
غير أنّ بعض الأقلام تسرعت في الذهاب بالحكم ، و وصف الدور الأردني بالمتراجع ، متجاهلة الحقائق والمواقف ، و تاريخ الدور الأردني تجاه القضية الفلسطينية ، بحكم قرب موقعه الجغرافي ، الذي الزمه واجبا وطنيا تجاهها منذ ولادتها ، لتكون في عهدته ، رغم محاولات البعض سحبها منه ، وصولا لمشهد توقيع اتفاقية التهدئة على طاولة قمة شرم الشيخ بحضور دولي واسع ، حيث أبدى الاردن رأيه فيها الواضح و الصريح عبر عنه، تصريح الملك للقنوات الفضائية و الصحفية .
في حين ، أن حقيقة الأمر ما قام به الاردن ماهو الا تقدم تكتيكي واثق الخطى ، له حساباته ، خاصة أن هناك العديد من علامات الاستفهام حول غموض نقاط الاتفاقية تجاه ملفات حساسة ، لا سيما تلك مازالت معلقة المرتبطة بالضفة الغربية ، و مدى التزام الطرف الإسرائيلي بتنفيذها .
تلك الطروحات حول الدور الاردني ، ماهي الا محاولة لصناعة رأي عام ، لتشويه الوعي الوطني وإضعاف الثقة بين المواطن ودولته.
النقد البناء الوطني الوازن النابع عن الحرص على المصلحة العامة و مكانة الاردن مرحب به ، يقابل بالحوار و النقاش ، و الدعوة إلى تبادل الأدوار لغاية وزن القرار ، لكنّ المناكفات السياسية الشعبوية ، الباحثة عن مكاسب آنية ، تحت غطاء دغدغة العواطف ، و لبس ثوب التحليل السياسي ، مرفوضة ، لأنها لا تخدم المصلحة الوطنية.
فالأردن الثابت بنهجه و عمق رؤيته المؤسسية ، لا يبحث عن الأضواء الصاخبة فدوره لا يُقاس بصورٍ الحضور في القمم بل بنتائجٍ الواقع على الأرض. التأثير الديبلوماسي الأردني في مخرجات الأحداث الراهنة هو شهادة لدوره المحوري، و مواقفه الثابتة هي عنوان سياسته التي تنسجم مع التاريخ والهوية والواجب القومي الذي يجري في وجدان الدولة و الشعب
القضية الفلسطينية لم و لن تختزل في نظام أو فصيل بل ستبقى بالنسبة للأردن ، قضية مركزية محورية ، ليست شعارا سياسيا أو ورقة ضغط، بل هي عقيدة دولة وهوية تعاهد عليها الشعب الاردني و الفلسطيني. هي التزام تاريخي نابع من عمق العلاقة ، والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية ، و درة تاجها القدس.
شتان بين من جعلها منارة لموقف صلب و بين من جعلها كلمات داخل بيانات ، حقل ألغام ، تلقى في مهرجانات الاستهلاك الإعلامي .
القضية الفلسطينية ولدت بوعد زائف ، لكنها ستختم بوعد حق
ولأن الأردن وتكوينه التاريخي السياسي و حكمه الهاشمي يدرك حجم التحديات، فهو يهيئ نفسه باستمرار لاي سيناريو قادم ، بثقةٍ و وعي و استعدادٍ دائم.
القضية الفلسطينية تحتاج إلى براغماتية خاصة ، تحكمها الواقع الميداني و القوى السياسية المؤثرة في رسم مسارها ، يكاد يكون خيطا رفيع ، تارة يتم تقصيره من يمشي فوقه يظن قد شارف الوصول إلى خط النهاية ، و تارة أخرى يمتد طويلا ، كأن لا نهاية له ، لذا يحتاج من يمشي عليه متأرجحا إلى دقة الحساب في كل خطوة يمشيها عليه ، احيانا يخطأ يكاد يقع ، و أحيانا يصيب ليستمر ، املا على طريق تحرير الأرض و الإنسان.
فالكيان الصهيوني يعلم أنّ في عمّان فكرا سياسيا نيرا وصبرا استراتيجيًا لا يكسر، وأن كل خطوة أردنية محسوبة بعناية تُربك الحسابات وتمنع فرض الأمر الواقع.
الدبلوماسية الأردنية لا تكتفي برد الفعل، بل تصنع الفعل وتفرض التراجع على خصومها، مؤمنة بأنّ الحقوق لا تُستجدى بل تُنتزع بالوعي ، الصبر و الموافقة الصلابة ، و مرونة السياسة اذا ما اقتضت الحاجة، لخدمة المصلحة الوطنية العليا.
الدور الاردني رسالة مضمونها:
هنا الاردن الحاضر بدوره المحوري ، رقما صعب ، صخرة صلبة لم تتزحزح يومًا عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها فلسطين.
هو ذلك الوطن الفتي القوي ، الذي نذر نفسه لتظل تلك القضية في عهدته ، توأما و عمقا استراتيجيا لامنه الوطني ،طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد أذا ما شتى .
سلامٌ على من سلم جواره، ونارٌ على من اعتدى.