حين نصغي للضجيج ونتجاهل الإنجاز
أ.د احمد منصور الخصاونة
19-10-2025 08:10 PM
في زمنٍ تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل فيه الأولويات، يقف العقل الأردني المتزن متسائلًا: كيف يمكن لحدثٍ علميٍّ وطنيٍّ بحجم تقدُّم الجامعة الأردنية في التصنيف العالمي QS بأربعةٍ وأربعين مرتبة دفعة واحدة، أن يمرّ مرور الكرام، بينما تضجّ المنصّات وتشتعل التعليقات لأيامٍ وليالٍ حول مشاجرةٍ طلابيةٍ عابرة؟
أيُّ ميزانٍ هذا الذي يقيس اهتمامنا العام؟ وأيُّ بوصلـةٍ تلك التي تهدي وعينا الجمعي نحو ما يستحق وما لا يستحق؟
تقدُّم أمّ الجامعات إلى المرتبة ٣٢٤ عالميًا لعام ٢٠٢٦، بعد أن كانت في المرتبة ٣٦٨ في العام السابق، ليس مجرد رقمٍ في جدولٍ دوليٍّ، بل هو شهادة إنجاز وطنيٍّ تُكتب بحروف من نور في سجلّ التعليم العالي الأردني.
إنه نتاجُ عملٍ مؤسسيٍّ متكامل، وجهدٍ أكاديميٍّ وإداريٍّ استمرّ لسنوات، تقوده إدارةٌ واعية بمتطلبات العصر، ممثلةً بمعالي الأستاذ الدكتور نذير عبيدات، الذي آمن بأن الجامعة لا يمكن أن تبقى رهينةَ التقليد، ولا أن تعيش خارج زمن الرقمنة والعصرنة والمنافسة الدولية.
فجاء هذا التقدّم تتويجًا لمسارٍ من التطوير في التعليم، والبحث العلمي، والبنية الرقمية، والحوكمة الجامعية، والتفاعل مع المجتمع المحلي والعالمي.
لكن السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه: لماذا لا نهتم بهذا النوع من الإنجاز كما نهتم بالضجيج؟
لماذا لا نجد منشوراتٍ تتغنّى بالعلماء والأساتذة والباحثين الذين رفعوا اسم الوطن عاليًا، كما نجدها تمجّد مشاهد الفوضى والمشاجرات التي تسيء إلى صورة الجامعات الأردنية؟ هل أصبحنا أسرى الإثارة العابرة؟ أم أن ثقافة التفاعل لدينا انحرفت عن تقدير القيمة الحقيقية للعلم والمعرفة؟
إن المشاجرات الجامعية – على ما فيها من أسف – تبقى حوادث فردية محدودة لا تعبّر عن الجوهر الحقيقي للجامعة الأردنية أو لطلبتها، لكن طريقة تضخيمها إعلاميًا ومنصّاتيًا تجعلها في الوعي العام وكأنها الحدث المركزي في الحياة الجامعية.
بينما الإنجاز الحقيقي، الذي يقيس مدى تطور منظومة التعليم والبحث والتأثير الدولي، يُترك في الظلّ بلا ضوء ولا صوت، وكأنه أمرٌ عابرٌ لا يثير الفضول ولا يستحق الاحتفاء.
في الحقيقة، لا يعي كثيرون أن تصنيف QS لا يُبنى على المجاملات، بل على معايير دقيقة تشمل السمعة الأكاديمية والبحثية، وجودة المخرجات التعليمية، وعدد الاستشهادات العلمية، ونسبة أعضاء هيئة التدريس إلى الطلبة، ومدى الحضور الدولي والتعاون البحثي.
ولذلك فإن كل خطوة تتقدّمها جامعةٌ في هذا التصنيف تمثّل قفزةً نوعية في الأداء الأكاديمي والبحث العلمي، وترجمةً مباشرةً لاستراتيجيةٍ عملت على تطوير البيئة الجامعية والبرامج والمختبرات، وربط التعليم بسوق العمل والابتكار.
من هنا، فإن تقدّم الجامعة الأردنية لا يخصّها وحدها، بل هو تقدّمٌ لمنظومة التعليم العالي الأردنية كلها.
هو إنجازٌ ينعكس على سمعة الشهادة الأردنية في الخارج، وعلى فرص خريجيها في التوظيف، وعلى جاذبية الاستثمار في التعليم والبحث العلمي داخل المملكة.
إنه مكسب وطني يجب أن يُحتفى به في المدارس، وأن يُدرّس كنموذج في الجامعات، لأنه يكرّس فكرة أن التنافس الشريف في ميدان العلم هو الطريق الأجمل لخدمة الوطن.
لقد آن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا كأفراد ومجتمع. فلا يجوز أن يعلو صوت الفوضى على صوت الحكمة، ولا أن تسرق مشاهد الشجار الاهتمام من مشاهد الإنجاز. يجب أن نتوقف عن منح “اللاحدث” صدارة المشهد، وأن نعيد الاعتبار إلى العمل الجادّ الذي يبني صورة الأردن كما نحبّ أن تُرى: بلد العلم والإنسان، لا بلد الجدل والخصام.
إن قيادة الجامعة الأردنية اليوم، ممثلةً برئيسها ومعاونيه من نواب وعمداء وأساتذة، تسير بخطى واثقة نحو الجامعة الذكية، مستثمرة في التكنولوجيا والمنصات التعليمية الحديثة، ومتبنية ثقافة التميز في الأداء الأكاديمي والإداري.
ولعلّ هذا ما يفسّر صعودها المتواصل في التصنيفات العالمية خلال السنوات الأخيرة، في وقتٍ تشهد فيه جامعات كثيرة حول العالم تراجعًا أو ثباتًا.
لكن هذا المسار لن يكتمل إلا إذا رافقه وعي مجتمعي داعم، يرى في الجامعة منارةً وطنيةً لا ساحة صراع، ومؤسسةً معرفيةً لا مكانًا للتفاخر الفارغ أو الانتماءات الضيقة. فالمجتمع الذي لا يحتفي بعلمه، لن ينهض بعلمه.
والمجتمع الذي لا يقدّر أساتذته وباحثيه، لن يفرز إلا أجيالًا تائهة بين الشهرة الزائفة والمحتوى الضحل.
نحتاج اليوم إلى إعادة بناء ثقافة الفخر بالإنجاز العلمي، لتصبح منشوراتنا وتغطياتنا واهتماماتنا انعكاسًا لوعينا، لا مرآةً لفوضانا.
حين نتحدث عن مشاجرة، فلنفعل ذلك بهدف الإصلاح والتوعية. وحين نتحدث عن إنجاز، فلنفعل ذلك بفخرٍ واعتزازٍ ومسؤولية.
فلا يستوي أن نغضّ الطرف عن بريقٍ أكاديمي عالمي صنعته أيادٍ أردنية، لننصرف إلى لهبٍ إعلامي عابر يشعل التعليقات ثم يخبو بلا أثر.
إن تقدّم الجامعة الأردنية ليس حدثًا أكاديميًا فحسب، بل هو رسالة وطنية تقول إن الأردن قادر، بعقول أبنائه وبكفاءة مؤسساته، أن ينافس على الساحة الدولية، وأن يكون حاضرًا بين الكبار علمًا وابتكارًا. فلنكرّم العقول كما نكرّم الأبطال، ولنجعل من قصص النجاح الأكاديمي مادة للفخر الجماعي، تمامًا كما نفعل حين يحقق رياضيٌّ أو فنانٌ أو جنديٌّ إنجازًا للوطن.
فكلّهم أبناء الأردن، وكلّهم يرفعون رايته كلٌّ في ميدانه.
وفي الختام، لنعِ أن الجامعة الأردنية حين تتقدّم، فإن الأردن بأسره يتقدّم.
وأن صعودها في تصنيفات العالم ليس غاية بحدّ ذاته، بل خطوة في طريقٍ طويل نحو جامعةٍ أكثر حداثة، وتعليمٍ أكثر جودة، ووطنٍ أكثر إشراقًا. فلنحتفِ بالعلم، لأنه وحده من يضمن لنا مكانًا كريمًا بين الأمم، بعيدًا عن صخبٍ لا يُبقي ولا يذر.