مدينة العقبة الرقمية .. الأردن يخط بوصلته نحو المستقبل
أ.د احمد منصور الخصاونة
23-10-2025 12:35 AM
حين يلتقي الإلهام القيادي بالرؤية الاستراتيجية، وحين تترجم الطموحات الوطنية إلى منجزات على الأرض، تولد مشاريع تصنع التاريخ لا اللحظة. هكذا كان المشهد في العقبة، حيث افتتح سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد المعظم، مدينة العقبة الرقمية، المشروع الأول من نوعه في المملكة، وأحد أكبر مراكز البيانات في المنطقة، في خطوة تؤسس لمرحلة جديدة من التحول الاقتصادي والمعرفي والتقني في الأردن.
هذا الافتتاح لم يكن حدثا تقنيا فحسب، بل إشارة رمزية إلى انتقال الأردن من مرحلة الاستخدام إلى مرحلة الإنتاج الرقمي، ومن موقع المتلقي إلى موقع الفاعل في اقتصاد المعرفة العالمي. إنها العقبة التي كانت عبر التاريخ شريان التجارة والعبور، تصبح اليوم شريان البيانات والمستقبل، بوصفها بوابة الأردن نحو العالم الرقمي.
من يتأمل خطوات سمو ولي العهد يدرك أن وراء كل مشروع يطلقه فكرا استراتيجيا متماسكا يربط بين الرؤية الوطنية والواقع الميداني. فولي العهد، الذي حمل منذ مطلع شبابه هم بناء أردن عصري قادر على المنافسة، يجسد اليوم مفهوم «القيادة بالمستقبل»، قيادة لا تنتظر الغد بل تصنعه، ولا تكتفي بالشعارات بل تترجمها إلى أفعال ومؤسسات ومشاريع ذات أثر.
إن مدينة العقبة الرقمية ليست مجرد منشأة تكنولوجية، بل نموذج مصغر للرؤية الملكية في بناء دولة حديثة تقودها المعرفة، وتحركها الكفاءات، ويساندها الاستثمار الذكي في الإنسان. وليس من المبالغة القول إن هذا المشروع يعد أحد أهم التحولات النوعية في بنية الدولة الأردنية الحديثة، لأنه يؤسس لركيزة جديدة من ركائز الأمن الوطني السيبراني والاقتصادي في آن واحد.
منذ قيام الدولة الأردنية، والعقبة تشكل البوابة الجنوبية للأردن، ونافذته إلى البحار والأسواق والمستقبل. واليوم، بفضل هذا المشروع الاستراتيجي، تضاف إلى أدوارها الاقتصادية والسياحية واللوجستية وظيفة جديدة، تجعلها محورا للاتصال الرقمي في المنطقة، ووجهة لمراكز البيانات والخدمات السحابية.
فالمشروع يتضمن بنية تحتية متقدمة، ومحطة لإنزال كابلات بحرية تربط الأردن بالشبكات الدولية، ما يجعل العقبة جزءا من المنظومة العالمية لتبادل البيانات. هذه الخطوة تعيد تموضع الأردن على خريطة الاقتصاد الرقمي الإقليمي، وتعزز مكانته كمركز ربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، بفضل موقعه الجغرافي واستقراره السياسي وكفاءاته البشرية.
العقبة الرقمية تكرس مفهوم السيادة الرقمية الوطنية، إذ تتيح للجهات الحكومية والمؤسسات المالية إدارة بياناتها محليا ضمن أعلى معايير الأمان والتشفير. وفي عالم تعد فيه المعلومة قوة، فإن امتلاك بنية تحتية وطنية للبيانات يمثل خطوة جوهرية نحو الاستقلال التكنولوجي وحماية الأمن المعلومات للدولة.
يدرك سمو ولي العهد أن التكنولوجيا، مهما بلغت من تطور، تبقى أداة بلا روح إن لم تدار بعقل مؤهل وإرادة مبدعة. لذلك، جاء المشروع مصحوبا برؤية متكاملة لبناء القدرات البشرية، من خلال مرافق تدريب وتأهيل للشباب الأردني في مجالات تكنولوجيا المعلومات، وإدارة مراكز البيانات، وتحليل المعلومات الضخمة، والذكاء الاصطناعي. هذه المرافق ليست تكميلية، بل هي قلب المشروع النابض، لأنها تضمن أن من يدير هذا الصرح هم أبناء الأردن، بعقولهم وسواعدهم. إنها مدرسة وطنية للابتكار تزرع المعرفة في الأجيال القادمة، وتحولهم من مستخدمين للتكنولوجيا إلى صانعين لها. بهذه الرؤية، يصبح المشروع ليس فقط خطوة في مسار التحول الرقمي، بل استثمارا في رأس المال البشري الأردني، الذي أثبت عبر عقود أنه الثروة الحقيقية للمملكة، وأنه الأقدر على المنافسة والإبداع متى ما أتيحت له الفرصة.
إن إنشاء مركز بيانات ضخم في العقبة يعد رافعة اقتصادية جديدة للاقتصاد الوطني، لأنه يفتح مجالات استثمارية في قطاع الخدمات السحابية واستضافة المنصات الإقليمية، ويشجع الشركات العالمية على نقل مراكزها إلى الأردن للاستفادة من البنية التحتية المتقدمة والأمن الرقمي المستقر. كما أن المشروع سيسهم في خفض كلفة الخدمات التقنية للمؤسسات الحكومية والخاصة، ويعزز الكفاءة التشغيلية في إدارة البيانات، ويوفر حلولا رقمية آمنة للقطاع المالي والاتصالات والتعليم والصحة. إلى جانب ذلك، فإنه يعزز حضور الأردن في منظومة الاقتصاد المعرفي العالمي، ويدعم خطط التحول نحو الاقتصاد الأخضر والرقمي المستدام.
من الناحية الاستراتيجية، يشكل المشروع خط دفاع متقدم عن الأمن السيبراني الوطني، إذ يمكن الدولة من حماية بياناتها الحساسة، وضمان استمرارية الخدمات الحكومية حتى في حال تعرض شبكات دولية لأي خلل أو اختراق. بهذا المعنى، فإن مدينة العقبة الرقمية ليست مجرد بنية تحتية، بل درع إلكتروني واقتصادي يحمي مصالح المملكة في عصر أصبحت فيه البيانات نفط القرن الحادي والعشرين. إن تصميم المدينة وتنفيذها وتشغيلها تم بكفاءات أردنية خالصة، مما يعكس القدرة المحلية على بناء مؤسسات بمعايير عالمية. إنها شهادة جديدة على أن الأردنيين حين يمنحون الثقة، يبدعون، وأن ما ينقصهم ليس الكفاءة بل الفرصة. فهذا المشروع ليس استيرادا للتكنولوجيا بقدر ما هو توطين للمعرفة، وتأكيد أن الأردن يمتلك المهارة والإرادة ليكون منتجا للتقنية لا مجرد مستهلك لها.
مدينة العقبة الرقمية هي جزء من خارطة الطريق الرقمية الأردنية التي تستند إلى مبادئ التحول الذكي، والحوكمة الرقمية، وسياسة الوصول المفتوح، والتكامل بين القطاعين العام والخاص. وهي تعكس فلسفة الدولة في تحقيق التنمية من الأطراف، لا من المركز فقط، إذ ترسخ العقبة موقعها كمدينة نموذجية، تجمع بين الصناعة والسياحة والخدمات الذكية في منظومة واحدة منسجمة. وفي سياق أوسع، تجسد المدينة تطلعات الأردن نحو أن يكون مركزا إقليميا لتبادل البيانات والخدمات الرقمية، مستفيدا من موقعه الجغرافي كبوابة بين القارات الثلاث، ومن استقراره السياسي الذي يعد أحد أهم عناصر الجذب للمستثمرين الدوليين في المنطقة.
ليست العقبة الرقمية مجرد إنجاز هندسي، بل فصل جديد من الحكاية الأردنية التي تروى بلغة الريادة والابتكار. إنها رسالة من ولي العهد إلى شباب الأردن: أن لا سقف للطموح، وأن الوطن لا ينتظر من يصنع له المستقبل بل من يصنعه بيده. وهي أيضا رسالة إلى العالم بأن الأردن الصغير بمساحته، كبير بفكره، عميق برؤيته، وراسخ بثوابته.
في زمن تتغير فيه معايير القوة من الجغرافيا إلى المعرفة، ومن السلاح إلى المعلومة، يثبت الأردن أنه يمتلك من الذكاء والقيادة ما يجعله في قلب العصر الرقمي لا على هامشه. افتتاح مدينة العقبة الرقمية هو إعلان عن ولادة عهد جديد في الاقتصاد الأردني، عهد تصبح فيه المعلومة سلعة وطنية، والمعرفة ثروة حقيقية، والشباب ركيزة النهوض. إنها خطوة تكرس الأردن مركزا إقليميا للبيانات والابتكار، وتجعل العقبة بوابة رقمية للأردن نحو العالم، كما كانت بوابته المائية والاقتصادية عبر التاريخ.
فمن العقبة يبدأ المستقبل، ومن رؤية ولي العهد ينبع الأمل، ومن إرادة الأردنيين تصاغ الحكاية القادمة: حكاية وطن صغير في الجغرافيا، كبير في الإبداع، قرر أن يكتب تاريخه القادم بلغة جديدة.. لغة التكنولوجيا والسيادة الرقمية والإنسان.
"الدستور"