facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مجلس النواب بين الجاهة والبرنامج ..


أ.د احمد منصور الخصاونة
24-10-2025 02:48 AM

المضحك المبكي في آنٍ واحد، أن مجلس النواب الأردني، الذي يُفترض أن يكون بيت التشريع والرقابة، بيت الديمقراطية، وبيت الصناديق والاقتراع والتصويت، قد تحوّل في موسمه الانتخابي الداخلي إلى ميدان جاهات لا إلى ساحة برامج. مشهدٌ سياسيٌّ مكرور، يتقدّم فيه النواب إلى سباق رئاسة المجلس لا بحجم الفكر أو عمق الرؤية، بل بعدد الجاهات التي تؤيدهم، وفناجين القهوة التي تُصبّ في طريقهم.

جاهة حزبية تذهب إلى النائب فلان، فتجلس في بيته وتقول له بعبارات الوجاهة التقليدية: "جئناكم طالبين، ولكم علينا ما تشاؤون". فيردّ بابتسامة عريضة: "تكرموا وابشروا بما جئتم به"، فيتنازل عن الترشح! وجاهة أخرى تزور النائب علّان، فيتكرر المشهد نفسه على فنجان قهوةٍ وعبارات مجاملة، لتُحسم مواقع قيادية في مؤسسة تشريعية كان يُفترض أن تكون عنوان الدولة المدنية الحديثة، لا استمرارًا للعقلية العشائرية في أروقة السياسة.

هكذا ببساطة، تحوّل مجلس النواب إلى ساحة "شقّ عرب"، والكرسي الذي يُفترض أن يكون موضع تنافسٍ سياسيٍّ راقٍ، إلى ميدان بين "الشيخ طلب" و"الشيخ أعطى". وبذلك، تتراجع لغة البرامج أمام لغة المونة، وتُستبدل الرؤية الوطنية بفنجان قهوة سادة، وتُختزل الممارسة الديمقراطية في طقوس اجتماعية جميلة في ظاهرها، لكنها قاتلة في مضمونها.

ما يحدث لا يُمكن اعتباره مجرد مظهرٍ اجتماعيٍ بريءٍ، بل هو تجسيدٌ لانحرافٍ عميقٍ في فهم الوظيفة السياسية للحياة النيابية. فحين تصبح الجاهة بديلاً عن الاقتراع، والمجاملة أقوى من الموقف، فإننا لا نمارس ديمقراطيةً بل نُدير علاقات عامة بلباسٍ سياسي.

لقد كانت التطلعات أن يكون هذا المجلس بداية عهدٍ جديدٍ من العمل الحزبي البرامجي، وأن تتحول الكتل النيابية إلى أذرعٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ تعبّر عن رؤى واضحة وأولويات محددة، تضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار. لكن ما نراه اليوم هو العكس تمامًا: أحزاب شكلية، كتل رخوة، وتحالفات تُبنى على العتب والمجاملة لا على الفكرة والموقف.

الأحزاب التي وُلدت في حضن قانون الأحزاب الجديد، لم تستطع حتى الآن أن تُثبت أنها تمتلك هوية سياسية أو مواقف فكرية. بعضها يقترب من الحكومة حين تشاء، ويبتعد حين لا تشاء، وكأنها مجموعات علاقات عامة وليست تنظيمات سياسية ذات مشروع. ولهذا، حين يحين موعد انتخاب رئيس المجلس، لا تتقدم الأحزاب ببرامج أو بيانات موقف، بل بجاهات وشخصيات ووسطاء.

والمشهد الأكثر قسوة أن عملية انتخاب الرئيس، التي يفترض أن تكون تمرينًا على الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسة التشريعية، تبدأ بفنجان قهوة وتنتهي بتنازلٍ عن حقٍ دستوريٍ مشروع. تنازل يلبس ثوب الكرم الشخصي، لكنه في جوهره تراجعٌ عن روح التنافس البرامجي الذي قامت عليه الفكرة الحزبية.

وحين تُمتهن الرمزية الدستورية بهذه الطريقة، يصبح من الطبيعي أن تمتد العدوى إلى ما هو أعمق. فحين تُطرح الموازنة العامة للنقاش، نرى وفودًا حكومية تزور هذا الحزب أو ذاك التكتل، لتصبّ فناجين قهوةٍ جديدة، تُدار حولها النقاشات والصفقات، لا على أساس البرامج والسياسات، بل على أساس العلاقات والمجاملات. وهكذا تُدار البلاد أحيانًا على مائدة القهوة بدل مائدة الحوار الوطني الحقيقي.

إن خطورة هذا المشهد لا تكمن فقط في صورته الاجتماعية، بل في أثره السياسي العميق. لأنه يُفرغ العملية السياسية من مضمونها، ويجعل البرلمان، وهو أهم مؤسسات الدولة التمثيلية، مجرد مسرحٍ للترضيات لا منبرًا للرقابة والتشريع. ويجعل الحزب الذي وُجد ليعبّر عن الموقف الوطني، مجرد شاهد زورٍ على غياب الموقف ذاته.

وما يزيد الطين بلّة، أن هذه الممارسات باتت مقبولة شعبيًا، بل تُروّج على أنها دليل "مرونة" و"تفاهم"، في حين أنها في الحقيقة وجه آخر من وجوه الانحدار في الثقافة السياسية. فالمرونة لا تعني التنازل عن المبادئ، والتفاهم لا يعني التخلي عن البرنامج، والاحترام المتبادل لا يُبنى على مجاملةٍ تذبح الموقف.

لقد حان الوقت لأن ننتقل من ثقافة الجاهة إلى ثقافة البرنامج، ومن المجاملة إلى المحاسبة، ومن العلاقات إلى المؤسسات. لأن الوطن لا يُدار على فنجان قهوة، ولا يُبنى على عبارات "تكرموا وابشروا"، بل على عقولٍ مسؤولة، ومؤسساتٍ تحترم نفسها، وأحزابٍ تملك الشجاعة لتقول "نعم" حين يجب أن تقولها، و"لا" حين تقتضي المصلحة الوطنية قولها.

إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من فوق المنابر، بل من داخل القناعات. ولن يتغير شكل الحياة النيابية ما لم يتغير جوهرها، وما لم يتحول النائب من وجيهٍ إلى مُمثلٍ، والحزب من ديكورٍ إلى فاعلٍ، والمجلس من "شقّ عرب" إلى مؤسسةٍ دستوريةٍ تقود النقاش الوطني وتعبّر عن ضمير الشعب.

حينها فقط، لن نحتاج إلى فنجان قهوةٍ لتمرير موقف، بل إلى برنامجٍ وطنيٍ يُقنع الناس قبل أن يُرضيهم. أما قبل ذلك، فسيبقى الوطن رهينة المجاملات، وسيبقى مجلس النواب أسير الجاهات التي تُقرّر من يكون الرئيس، لا صناديق الاقتراع التي يُفترض أن تحسم الكلمة الأخيرة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :