الملك أمام صرح شهداء بني صخر… صمتٌ يروي تاريخ التضحية والولاء
عمر الدهامشة
23-11-2025 09:05 PM
في الموقر، حيث الأرض التي عرفت خطى الفرسان، ارتسمت عليها صفحاتٌ من تاريخ الأردن الحديث، يقف صرح شهداء بني صخر شاهداً على عشائر لم تتغيّب يوماً عن ميادين الدفاع عن الوطن. هناك، يتجلّى الوفاء في أوضح صوره، ويقف التاريخ ماثلاً في صمت الحجارة التي تحمل أسماء رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وفي لحظة وطنية مفعمة بالرمزية، مرّ جلالة الملك عبدالله الثاني أمام هذا الصرح المقام أمام ديوان الخرشان، أثناء تقديمه واجب العزاء بوفاة القامة الوطنية الراحل معالي جمال حديثة الخريشا، كانت تلك اللحظة أكثر من مرور بروتوكولي؛ كانت مشهداً يلخص أكثر من قرن من الثقة المتبادلة بين القيادة الهاشمية وقبيلة بني صخر، ويعيد التأكيد على مكانة القبيلة ووفائها، وعلى تقدير الدولة للرجال الذين يخلّدون شهداءها ويصونون إرثهم.
إن صرح شهداءِ قبيلة بني صخر، الذي لا تكاد تخلو عشيرةٌ من عشائرها من شهداءَ قدّموا أرواحهم فداءً للوطن، يحفظ ذاكرةَ رجال حملوا الأردنَّ في قلوبهم، فهذا الصرحُ ليس بناءً حجرياً فحسب، بل هو تجسيدٌ لتاريخ طويل من الفداء.
فمنذ بدايات تأسيس الإمارة، كانت بني صخر من أوائل القبائل التي حملت السلاح دفاعاً عن ثرى الأردن وفلسطين، وقدّمت شهداءَ في ساحات البطولة، لتظلّ ركيزةً ثابتةً لأمن الدولة واستقرارها.
وشكّلت القبيلة ذراعاً وطنياً تمتد حيث يكون الخطر، وحائط صدٍ حين تشتدّ التحديات، فمواقفها عبر مئات الأعوام الماضية تمنح هذا الصرح معنى أكبر من ذاته، وتجعل مرور الملك أمامه حدثاً يعيد إحياء تلك السيرة المشرقة.
لقد أدرك الراحل معالي الشيخ جمال حديثة الخريشا، أن الشهداء هم صفحات الوطن الخالدة، ومن هذا الإدراك، انطلق في مشروعه الوطني بإخلاصٍ وحكمة، ليعيد ترتيب وتصميم صرح شهداء بني صخر بطريقة تليق ببطولات رجال القبيلة وتاريخهم بالتعاون مع القوات المسلحة الأردنية، حيث أشرف على كل تفصيلة، من التخطيط إلى التنفيذ، مؤمناً بأن تخليد الشهداء هو تخليدٌ للوطن ذاته.
لم يكن الراحل "أبو حديثة" يمارس دوراً إدارياً، بل كان ينفّذ رسالة، أراد للصرح أن يكون ذاكرة حيّة، وأن يبقى حاضراً في وجدان أبناء القبيلة، وأن يذكّر الأجيال الجديدة بأن الوفاء ليس شعاراً يتردد، بل فعلٌ يصنعه رجالٌ يعشقون الأردن ويؤمنون بقيادته الهاشمية.
اليوم، مر جلالة الملك أمام الصرح خلال تقديم واجب العزاء بوفاة فقيد الوطن والقبيلة معالي الشيخ جمال حديثة الخريشا، بدا المشهد وكأنه تحية ملكية صامتة لجهود الراحل، وإجلال لأرواح الشهداء الذين سطّروا تاريخ بني صخر، لقد حملت تلك اللحظة معاني عميقة.
وفاءٌ من القيادة لمن يكرّم شهداء الوطن، واعترافٌ بقيمة المبادرات التي تحفظ الذاكرة الوطنية، ورسالة واضحة بأن الأردن لا ينسى رجاله، ولا يتجاوز من يخدمه بإخلاص.
كان الصمت الذي أحاط بالمكان يروي كل شي، يروي تاريخ التضحية، ويعيد سرد الولاء الذي قدّمه أبناء بني صخر على مدى أجيال، ويؤكد أن العلاقة بين القبيلة والعرش ليست علاقة ظرفية، بل علاقة جذورٍ متأصلة في الأرض.
إن أبناء بني صخر الحاضرين الذين وقفوا إلى جانب القيادة الهاشمية منذ البدايات، ما زالوا ثابتين على عهد الآباء والأجداد، في الجيش، والأمن، والإدارة، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، كان حضورهم راسخاً، وإسهامهم واضحاً في بناء الدولة وتعزيز قوتها.
ولا يزال أبناء القبيلة اليوم يسيرون على ذات الدرب، درب الولاء للعرش، وحماية ثرى الأردن، والوقوف في الخطوط الأمامية حيثما يكون النداء الوطني.
من أمام صرح شهداء بني صخر، حيث وقف الملك مودّعاً جمال حديثة الخريشا، تتجلى الحكاية كاملة:
قائد يحفظ تضحيات رجاله، وقبيلة تجدد عهدها للوطن والعرش، ورجلٌ رحل لكنه أبقى أثراً خالداً يُحاكي تاريخ بني صخر ويصون ذاكرته.
إنه صرح يروي… وملك يكرّم… وقبيلة تواصل الولاء جيلاً بعد جيل.