تحديث القطاع العام بين الطموح والواقع
عقيد متقاعد محمد الخطيب
24-11-2025 10:35 AM
* الورش بدأت… لكن الامتحان في التنفيذ
مع انطلاق ورش العمل في رئاسة الوزراء لمناقشة البرنامج التنفيذي الثاني لخارطة طريق تحديث القطاع العام (2026–2029)، يعود إلى الواجهة واحد من أكثر الملفات حساسية في الإدارة الأردنية: كيف ننتقل من الخطة إلى الفعل؟
فالخارطة التي أطلقت عام 2022 وتمتد لعشر سنوات، تُعد من أكثر المشروعات الإصلاحية طموحا، وتهدف — نظريا — إلى بناء قطاع عام فعّال، رقمي، مرن، وقادر على تقديم خدمة محترمة للمواطن.
ورغم أن الخطط على الورق كثيرة، إلا أن التحدّي الحقيقي يكمن في التنفيذ وليس التنظير. وهنا تأتي أهمية الورش الحالية، التي يشارك فيها خبراء ومختصون من القطاعين العام والخاص، في مؤشر إيجابي على الرغبة في توسيع دائرة الحوار وعدم إبقاء عملية التحديث داخل “الجدران الحكومية”.
تحدّيات التنفيذ: أين تكمن المشكلة؟
المشكلة ليست في نقص الرؤى ولا في ضعف التخطيط.
الأردن يمتلك وثائق وخططا إصلاحية متقدمة منذ عقود، بعضها لم يغادر مرحلة «الإعلان» إلى مرحلة "الإنجاز" . وبالتالي فإن نجاح البرنامج التنفيذي الثاني يتطلب مواجهة ثلاثة تحديات مركزية:
أولًا: المكونات السبعة… وضوح كبير واتساع أكبر
الخارطة تتضمن سبعة مكونات رئيسية:
الخدمات والإجراءات، الحوكمة، السياسات والتشريعات، الموارد البشرية، الثقافة المؤسسية، البيانات والتقنيات الناشئة، وكفاءة الإنفاق.
هذا الشمول مهم، لكنه قد يتحول إلى عبء إذا لم تُحدّد أولويات واضحة، لأن محاولة إصلاح كل شيء دفعة واحدة تؤدي غالبا إلى عدم إصلاح أي شيء بشكل حقيقي. نجاح الخطة يحتاج إلى تركيز متدرج، وقياس دقيق، وتحديد مسارات قابلة للتحقيق.
ثانيًا: إشراك القطاع الخاص… من الشراكة إلى التأثير
وجود القطاع الخاص في هذه الورش خطوة تحسب للحكومة، إذ لا يمكن تطوير الخدمات والإجراءات دون فهم ما يحتاجه المستخدم الحقيقي — سواء كان تاجرا، مستثمرا، أو مواطنا عاديا.
لكن التجارب السابقة تُظهر أن الاستماع شيء، واعتماد التوصيات شيء آخر. والفرق بينهما هو ما يحدد إن كنا نتحدث عن شراكة حقيقية أم استماع بروتوكولي.
إن أرادت الحكومة نتائج مختلفة، فعليها أن تضع ملاحظات المشاركين ضمن عملية اتخاذ القرار، لا أن تبقى مجرد جزء من محاضر الاجتماعات.
ثالثًا: الثقافة المؤسسية… العقدة الأصعب
يمكن استبدال نظام حكومي خلال يومين، لكن لا يمكن تغيير عقلية موظف خلال يومين.
الثقافة المؤسسية هي الامتحان الأصعب، وهي التي تحدد ما إذا كان الهدف هو خدمة المواطن أم خدمة “الورق”. من دون تغيير حقيقي في الذهنيّة — من البيروقراطية إلى الفعالية — ستبقى أفضل الأنظمة مجرد ديكور، وستظل التشريعات الحديثة محاصرة بعقلية العمل التقليدي.
ما الذي يجب مراقبته خلال السنوات القادمة؟
نجاح البرنامج التنفيذي الثاني لن يقاس بعدد الورش ولا بطول الوثائق، بل بمؤشرات واضحة في حياة المواطن:
• هل أصبحت الخدمة الحكومية أسرع وأسهل؟
• هل تقلّصت البيروقراطية وازدادت الشفافية؟
• هل تطورت مهارات القيادات والموظفين فعليا؟
• هل أصبحت القرارات تستند إلى بيانات دقيقة بدل الانطباعات؟
• وهل أصبحت التقنيات الحديثة جزءًا من العمل اليومي لا مجرد عنوان في مؤتمر؟
هذه الأسئلة هي التي ستحدد إن كنا أمام تحول حقيقي أم أمام موجة جديدة من النشاط البروتوكولي الذي لا ينتج تغييرا ملموسا.
الورش خطوة في الاتجاه الصحيح، وتعكس إدراكا رسميا بأن تحديث القطاع العام ضرورة وطنية لا ترفا تنظيريا.
لكن الطريق طويل، والامتحان في التنفيذ، والنجاح مرهون بقدرتنا على تحويل الخطط إلى نتائج، والوعود إلى أفعال، والكلام إلى إنجازات يشعر بها المواطن في يومه لا في بيانات الحكومة.
وإذا استطاع البرنامج التنفيذي الثاني أن يحقق جزءًا من ذلك، فسيكون الأردن أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء قطاع عام قوي، عصري، وكفء… قطاع عام ممكّن وفعّال كما وعدت الخارطة.
وإن لم يتحقق، فستبقى الخطة — كغيرها — وثيقة جميلة تنتظر التنفيذ على الرف.