facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




المطر والحزن


د. جاسر خلف محاسنه
25-11-2025 12:01 PM

كان المطر هذا الصباح يهبط كأنه يمشي على أطراف أصابعه. صوتٌ خفيف، يكاد يكون همسًا، لكنه يوقظ شيئًا قديمًا في القلب. لم يكن غزيرًا ولا قليلًا، بل مطر يعرف طريقه إلينا، يعرف كيف يدخل الذاكرة قبل أن يلمس الأرض. ونحن أبناء التراب نفرح به كما يفرح الفلاح حين يرى أول خط من الماء يشقّ التراب، فيفتح كفَّه للسماء كأنه يحيّي صديقًا عاد بعد غياب طويل.

والمطر دائمًا ما يأخذنا نحو الداخل، نحو تلك الغرف الحجرية ذات النوافذ الخشبية، حيث كان الدفء يأتي من اجتماع العائلة أكثر مما يأتي من النار. وعلى الجدار صورة قديمة لأبي، بملامح صلبة وابتسامة تعرف كيف تُخفي التعب. لم يكن البيت واسعًا، لكنه كان يكفي. كان يسع الحياة كما كنّا نفهمها بعفويتها وطمأنينتها.

تغيَّر الزمن، وتغيّرنا معه.

كنا نتقاسم الرغيف، واليوم نتقاسم مسؤوليات الحياة وهمومها. كنا نطارد المطر، واليوم نطارد الاستقرار. بعض الأسماء التي كانت تُنادى بصوتٍ عالٍ عند الغروب صارت تُذكر بصوت منخفض… كأن الغياب يحتاج إلى احترامٍ أكبر. ورحل أبي، ورحل معه زمن لا يعوَّض.

أبي…

كلما هطل المطر، تمتد الذاكرة كيدٍ وادعة على كتفي. أراه واقفًا قرب الباب، ينظر إلى السماء ويقول: “المطر يعرف الرجال.” لم أفهم معناها وقتها، وفهمتها الآن.

كان أبي من رجال الجيل الأول الذين أسسوا الدولة الأردنية الحديثة؛ من أولئك الذين حملوا الفكرة قبل أن تتسع المؤسسات، وجعلوا من حياتهم جسورًا نعبر عليها نحن اليوم. عمل بصمت ووقار، دون انتظار ثناء، ودون أن ينسب لنفسه فضلًا، كأنه جزء طبيعي من نسيج هذه الأرض. رجال من معدنٍ قديم، يحملون الوطن كما يحمل الفلاح حزمته فوق ظهره بثبات، وبقلبٍ يعرف قيمته دون أن يصرخ بها.

ومع الأيام، تعلمتُ أن الحياة ليست سهلة على الذين يختارون الطريق الأصعب؛ طريق الصدق والإخلاص. تعمل لوطنك ولمن حولك، وتضع جهدك حيث يجب، حتى لو لم يُرَ كل ما تقدّمه. ومع ذلك… نمضي. لا لأن الطريق خالٍ من التحديات، بل لأن المبادئ التي تربينا عليها لا تسمح لنا بغير المضيّ.

وعندما يسقط المطر، أشعر بما يشبه مواسم الهجرة. لسنا غرباء عن أرضنا، لكن في داخل كل واحدٍ منا رغبة صامتة بالهرب من التعب، من الخذلان الإنساني، من تلك اللحظات التي يصبح فيها وجودنا باهتًا بين الضجيج.

المطر وحده يعيد إلينا يقيننا بأننا مرئيون، وأن أسماءنا ما زالت حيّة في ذاكرة الأرض.

ومع كل قطرة، يستعيد كل شيء شكله الأول؛

رائحة التراب،

صفاء الروح،

ومكان الحزن الهادئ في الصدر.

أنظر من النافذة، فأرى أن المطر لا يجلب الغيم فقط…

يجلب أبي.

يجلب صورته القديمة على الجدار.

يجلب دفئًا يشبه يدًا تُربّت على القلب في لحظة طمأنينة نادرة.

وأدرك رغم كل شيء أنني ما زلت الرجل الذي يقف في وجه الريح، الذي لا يتقن الهرب بل يتقن الصمود. رجلٌ يحفظ ذكرياته، ويصون وجوه من رحلوا، ويفرح بالمطر بصمت… كأنه عهد قديم لا يجوز خيانته.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :