أجندة الشباب السلام والأمن بعد عشر سنوات
د. معن الشمايلة
09-12-2025 12:00 PM
* ماذا يقول الشباب؟ وماذا تقول السياسات؟
قبل عشر سنوات، احتفى العالم بقرار بدا كأنه سيغير قواعد اللعبة في مناطق النزاعات. قرار منح الشباب مساحة غير مسبوقة داخل منظومة الأمم المتحدة، وفتح الباب أمام مشاركتهم في بناء السلام وصنع مستقبل أكثر عدلا لمجتمعاتهم. وفي تلك اللحظة، لم يكن المجتمع الدولي يدرك تماما أنه يكرس تحولا جديدا في التفكير الأمني العالمي، لكننا في الأردن كنا نعرف ذلك جيدا؛ لأن الشرارة الأولى انطلقت من عمان، ولأننا أدركنا مبكرا أن الشباب شركاء حقيقيون في الوقاية من النزاعات وتعزيز الاستقرار والأمن المجتمعي.
اليوم، وبعد مرور عقد كامل، بينما اتسعت الحروب وتضاعفت موجات اللجوء وتعمقت الانقسامات، يبدو السؤال الأكثر إلحاحا، هل استطاع القرار 2250 تضييق الفجوة بين الاحتفال والتطبيق؟ أم أن الواقع الإقليمي والدولي جعل المهمة أكثر تعقيدا؟ حيث يبقى الدرس الأهم في ذلك أن دور الشباب لم يعد خيارا سياسيا، بل ضرورة تفرضها هشاشة عالم يتغير بسرعة تفوق قدرة مؤسساته على استيعابها.
لقد ولدت فكرة القرار 2250 من رؤية أردنية مبكرة، صاغت صوتا جديدا خرج من عمان في شهر آب من العام 2015 ليصل إلى مجلس الأمن، ويعيد تعريف علاقة الشباب بجهود السلام العالمية. كان ذلك الاعتراف التاريخي ثمرة لحظة التقاء بين قيادة تؤمن بالشباب، بقيادة سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظه الله، وبين واقع عالمي يبحث عن مقاربات جديدة لمعالجة النزاعات الممتدة، منذ ذلك الحين، لم يعد من الممكن تجاهل سؤال الشباب أو استبعادهم من دوائر اتخاذ القرار.
وخلال السنوات العشر الماضية أصبح القرار أحد أكثر الأدوات استنادا في برامج الوساطة المحلية، والتماسك الاجتماعي، وبناء قدرات القادة الشباب. فقد تبنته الأمم المتحدة في خططها القطرية، وارتكزت عليه منظمات دولية ومحلية لإطلاق مبادرات مبتكرة في حماية المدنيين، والوقاية من التطرف العنيف، وإعادة بناء الثقة في المجتمعات التي أنهكتها الصراعات. ومكن القرار شبابا في سوريا واليمن وليبيا والسودان وفلسطين من خلق مساحات للحوار، رغم الدمار والتهجير، ومن بناء مبادرات صغيرة لكنها فعالة، حتى عندما عجزت السياسات الكبرى عن إحداث اختراق حقيقي.
وعلى مستوى الدول، قدم الأردن خلال السنوات العشر الماضية أحد أهم النماذج في تنفيذ أجندة الشباب والسلام والأمن ، فالدولة التي انطلقت منها شرارة أجندة الشباب السلام والأمن استطاعت أن تطور نهجا وطنيا متقدما يقوم على تعزيز مشاركة الشباب في صياغة السياسات واتخاذ القرار، وإيجاد مساحات آمنة للحوار والعمل العام، وبناء قدراتهم التي تعزز من التماسك المجتمعي. ومع مرور الوقت، أصبح الأردن نموذجا يستشهد به على المستويين الإقليمي والدولي، سواء أكان من خلال دوره في إطلاق المنتدى العالمي للشباب والسلام والأمن أم من خلال المبادرات المختلفة المبنية على تمكين الشباب وتعزيز مشاركتهم في مسارات الإصلاح السياسي والتنمية.
كما عمل الأردن على دمج عناصر أجندة الشباب والسلام والأمن داخل الاستراتيجية الوطنية للشباب، واطلاق الخطة الوطنية لتنفيذ القرار 2250 وخطط تحديث المنظومة السياسية، إضافة إلى شراكات واسعة مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. كما أصبح الأردن مركزا إقليميا لتبادل الخبرات وتطوير الممارسات الفضلى، بفضل دوره في تدريب كوادر حكومية وشبابية على القرار 2250 ، بذلك لم يعد الأردن نقطة انطلاق القرار فحسب، بل أصبح بيئة حقيقية حولت الأجندة إلى فعل، والصوت الشبابي إلى سياسة.
وفي العالم العربي، كانت السنوات الماضية اختبارا صعبا لأجندة الشباب والسلام والأمن، فقد امتزجت الحروب بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتغيرت أدوار الشباب بشكل غير مسبوق، وظهر جيل جديد يعيش بين الخسارات اليومية ورغبة قوية في النجاة وإعادة البناء.
ورغم ذلك، بقيت مبادرات الشباب نقطة الضوء الأوضح والأبرز في مناطق اختفت فيها مؤسسات الدولة أو ضعفت إلى حد كبير. ولعل تطوير الاستراتيجية العربية للشباب والسلام والأمن (2023 - 2028) بقيادة الأردن شكل أول إطار إقليمي مشترك يعترف بالدور الحيوي للشباب في بناء السلام، بوصفه ضرورة استراتيجية وليست مجاملة خطابية.
ومع هذا التقدم، لا يزال الطريق طويلا، فكثير من الجهود على مستوى الدول بقيت في إطار النصوص دون أن تتحول إلى إجراءات ملموسة. وغياب الموازنات المخصصة لهذه الأجندة جعل عديد من المبادرات الشبابية قصيرة العمر، وأكثر هشاشة مما ينبغي. كما أن النزاعات أصبحت أكثر تركيبا وتشابكا، وبدأت تتداخل مع أزمات المناخ والهجرة والأمن السيبراني، مما يفرض مسؤوليات جديدة على الشباب لم تكن موجودة قبل عقد من الزمان.
وعلى المستوى الدولي وبالرغم من الزخم الكبير الذي حظيت به أجندة الشباب، السلام والأمن خلال السنوات العشر الماضية، إلا أن التقدم على مستوى الخطط الوطنية لا يزال محدودا ، فحتى نهاية العام 2025، لم تعتمد سوى (11) دولة فقط خططا وطنية خاصة بأجندة الشباب السلام والأمن، أي ما نسبته أقل من (6%) من دول العالم، مع هيمنة واضحة لدول إفريقيا التي تستحوذ وحدها على ثلثي هذه الخطط تقريبا. هذا ويبرز التفاوت بصورة أوضح عند المقارنة مع أجندة المرأة السلام والأمن التي تجاوز فيها عدد الخطط الوطنية حاجز (100) خطة، ما يعكس فجوة كبيرة في مستوى المأسسة بين أجندة المرأة والشباب. كما تبرز فنلندا كحالة متقدمة عالميا إذ كانت أول دولة تعتمد خطة وطنية متكاملة لأجندة الشباب، السلام والأمن، ثم انتقلت في العام 2025 إلى جيل ثان من الخطط للفترة (2025–2028).
وتمتاز التجربة الفنلندية بدمج الأجندة داخل السياسات الخارجية والأمنية، وبآليات رصد وتقييم متقدمة سمحت بتطوير الخطة الثانية استنادا إلى دروس تنفيذ الخطة الأولى، وهو ما يجعلها نموذجا عمليا للدول الساعية للتحول من الالتزام السياسي إلى المأسسة لأجندة الشباب السلام والأمن.
كما يلاحظ أن أكثر من نصف الخطط الوطنية لأجندة الشباب السلام والأمن الحالية قد صدرت خلال الفترة 2023-2025، خصوصا في غرب ووسط إفريقيا، وهو ما يشير إلى موجة متأخرة من النشاط مقارنة بالسنوات الأولى التي تلت تبني القرار 2250 في العام 2015 وفي مقابل هذا العدد المحدود، لجأت دول عديدة إلى دمج عناصر الأجندة داخل سياساتها القطاعية مثل استراتيجيات الشباب الوطنية، وخطط الأمن المجتمعي، وبرامج منع التطرف العنيف المختلفة دون إصدار خطط وطنية مستقلة لأجندة الشباب السلام والأمن، الأمر الذي يجعل عدد الخطط مؤشرا مهما لكنه غير كاف لقياس التقدم الحقيقي على مستوى السياسات.
أما إقليميا، فقد مثلت الاستراتيجية العربية للشباب، السلام والأمن (2023–2028) نقطة تحول مهمة، بوصفها أول إطار سياسي عربي شامل يدفع نحو تطوير خطط وطنية أو دمج لأجندة الشباب السلام والأمن داخل السياسات الوطنية، وهو ما انعكس مباشرة في الأردن عبر إطلاق خطته الوطنية الأولى (2025–2027) التي جاءت استمرارا لدوره الريادي والتأسيسي منذ إعلان عمان 2015.
ورغم الاعتراف الدولي الواسع بدور الشباب، إلا أن حضورهم في عمليات السلام الرسمية يظل محدودا؛ فهم غالبا يستدعون إلى الهامش للحوار أو الاستماع لمداخلاتهم، بينما تبقى الطاولة الرئيسية محجوزة لأطراف لا تمثل نصف المجتمع، ولا تمتلك القدرة على قراءة التحولات الجديدة كما يفعل الشباب. كما تعاني الشبكات الشبابية من تحديات الاستدامة والاستمرارية، ومن الاجراءات البيروقراطية، ومن ضيق المساحات المدنية.
ومع ذلك، تكشف السنوات العشر الماضية عن حقائق مهمة. فقد أثبت الشباب أنهم ليسوا فئة واحدة، بل مجموعات متنوعة تختلف في التجربة والاحتياجات والفرص. وتبين أن قصص السلام الصغيرة التي يصنعها الشباب في القرى والمخيمات والأحياء الشعبية تحدث أثرا مباشرا على حياة الناس، حتى ولو لم تدرج في التقارير الرسمية. كما أظهرت التجربة أن التمكين الحقيقي لا يأتي من ورشات التدريب وحدها، بل من الثقة والموارد واستمرار الدعم، ومن قدرة الشباب على صياغة الحلول لا مجرد تنفيذها.
ومع دخول العقد الثاني للقرار 2250، تتضح الأولويات التي ينبغي أن تقود الجهود المقبلة، فالشباب يجب أن يكونوا جزءا أساسيا في كافة مراحل النزاعات، لا مجرد مستفيدين من المساعدات الإنسانية. كما يجب دمج الشباب في مسارات الأمن المناخي، الذي بات أحد أهم محركات الصراع ومهدداته. كما أن الاستثمار في القيادة المحلية أو الأطراف، بعيدا عن مركز العواصم، سيخلق مساحات جديدة لنجاح الأجندة. والشراكات الطويلة بين الحكومات والمجتمع المدني والقادة الشباب يجب أن تتحول إلى نموذج عمل مستدام، لا مبادرات ظرفية قصيرة.
وتبرز كذلك الحاجة إلى خطوات سياسية واضحة، مثل إطلاق خطط تنفيذ وطنية مرتبطة بموازنات حقيقية، وتخصيص تمويل مستدام لبرامج الشباب والسلام والأمن، وإدماج الشباب في الاستجابات الإنسانية وإعادة الإعمار، وخلق آليات مساءلة تضمن تنفيذ الالتزامات. كما يجب دعم الجامعات ومراكز البحث لتكون جزءا من منظومة التفكير في بناء السلام، وتوسيع دور الإعلام في نقل أصوات الشباب وتسليط الضوء على قصصهم التي غالبا ما تبقى خارج التغطية.
إن مرور عشر سنوات على القرار 2250 ليس مجرد مناسبة تستحق التذكر والاحتفال، بل لحظة تعيد تذكيرنا بقيمة الصوت الشبابي حين يمتلك المساحة، وبقدرة الأجيال الجديدة على إعادة تعريف مفهوم السلام. ولعل الرسالة الأقوى اليوم هي أن الشباب لا ينتظرون إذنا ليبدأوا؛ إنهم يبدأون دائما. وكل ما يحتاجونه هو أن نستمع إليهم قليلا، وأن نفسح لهم الطريق ليواصلوا صناعة الأمل كما فعلوا منذ اللحظة الأولى التي انطلقت قبل عشر سنوات من عمان إلى العالم.
* خبير أجندة الشباب السلام والأمن