الإدارات العليا التي تفضّل التعامل مع الأقوياء… لا بناءهم داخلها
م. رياض الخرابشة
14-12-2025 07:40 PM
ليست الإشكالية في وجود الكفاءات القوية، بل في كيفية إدارتها واستيعابها داخل البناء المؤسسي. فبعض الإدارات العليا لا تعادي القوة من حيث المبدأ، بل تتعامل معها بارتياح ما دامت بعيدة عن القرار اليومي وغير متموضعة داخل الهرم الإداري. أما حين تقترب هذه القوة من دوائر التأثير، وتتحول إلى عنصر فاعل في صناعة القرار، فإنها تُواجَه بالتحفّظ لا بالاحتضان.
في جوهر هذه الظاهرة، ترتاح هذه الإدارات للتعامل مع شخصيات قوية بصفتهم شركاء أو مستشارين أو نظراء، بل وحتى منافسين خارجيين. فالقوة في هذه الحالات تُثري النقاش دون أن تُربك توازن السلطة أو تُعيد طرح أسئلة التفرد والمكانة. غير أن المشهد يتغيّر حين تتجسّد الكفاءة ذاتها في المستويات الإدارية الأدنى، لأن ذلك يضع نموذج الإدارة القائم موضع مراجعة، ويكشف الفرق بين إدارة الموقع وإدارة المنظومة.
وتعود أسباب هذا السلوك إلى جملة من العوامل المتداخلة، أبرزها الخلط بين إدارة القرار واحتكاره. فبعض الإدارات العليا تنظر إلى القرار بوصفه امتيازًا لا وظيفة تنظيمية، وترى في المدير القوي داخل الصف الثاني احتمالًا للتزاحم لا فرصة للتكامل. ويُضاف إلى ذلك ضعف الأمان المؤسسي؛ فالإدارة الواثقة لا تخشى المقارنة ولا ترى في بروز الكفاءات خطرًا، بينما تميل الإدارة القلقة إلى بناء مسافات أمان غير معلنة تحدّ من نمو البدائل.
كما تلعب الراحة النفسية دورًا مهمًا في هذا السياق؛ فالقوة الخارجية غير قابلة للإزاحة، ولا تطرح سؤال الاستمرارية، بينما القوة الداخلية تُذكّر – ولو ضمنيًا – بأهمية الإحلال والتعاقب. ويكتمل هذا المشهد في بيئات مؤسسية غير ناضجة، تُكافأ فيها الطاعة أكثر من المبادرة، ويُعاد فيها إنتاج الضعف بوصفه سلوكًا آمنًا يضمن استقرارًا شكليًا قصير الأمد.
عمليًا، تنعكس هذه الذهنية في تفضيل المدراء “المنفذين” على حساب المدراء “المبادرين”، وفي تحجيم الصلاحيات بدوافع شخصية لا مهنية، وفي إبقاء الكفاءات القوية في أدوار استشارية بعيدة عن النفاذ التنفيذي. وغالبًا ما يترافق ذلك مع خطاب إيجابي في العلن، يقابله إقصاء هادئ في تفاصيل العمل اليومية.
ومن أكثر تجليات هذه الظاهرة حساسية البخل بالدعم المعنوي المؤسسي. فالكفاءة القوية تُترك لتنجز بصمت، دون تشجيع أو اعتراف، ثم يُعاد توصيف العلاقة لاحقًا بوصفها علاقة دعم أو صداقة. غير أن غياب الدعم هنا لا يكون تفصيلًا عابرًا، بل سلوكًا محسوبًا؛ لأن الكلمة الداعمة تُولّد ثقة، والثقة تُسرّع النضج، والنضج قد يُفضي إلى نفوذ إيجابي لا تُحسن بعض الإدارات استيعابه.
وهنا يبرز الفارق الجوهري بين إدارات عليا تُدير الأفراد، وإدارات عليا تبني المنظومة. الأولى تُمسك بالخيوط خوفًا من فقدان السيطرة، والثانية توزّع القوة بوعي لتصنع استدامة حقيقية. فالإدارة الآمنة لا تخشى الأقوياء في صفّها الثاني، بل ترى فيهم ضمانة للاستمرارية ورافعة لجودة القرار.
النتيجة المؤسسية لهذا الخيار واضحة. فحين يُهمل بناء الصف الثاني، تتآكل المبادرات، وتُفقد القيادات المستقبلية، وتصبح المؤسسة رهينة لشخص واحد، تحقق نجاحًا مرحليًا، لكنها تتعثر عند أول انتقال أو غياب. أما حين يُدار الصف الثاني بوصفه استثمارًا استراتيجيًا، فإن المؤسسة تنتقل من الاعتماد على الأفراد إلى قوة النظام.
في المحصلة، لا ينبغي أن تسأل الإدارات العليا إن كانت الكفاءة قوية أم لا، بل كيف يمكن توجيه هذه القوة داخل الإطار المؤسسي دون أن تتحول إلى صراع. فالإدارة العليا الناجحة ليست تلك التي تحتفظ بالقوة، بل التي تُحسن توزيعها، لأن قوة المؤسسة الحقيقية لا تُقاس بمن يتصدرها اليوم، بل بمن أُعِدّ ليحملها بثقة غدًا.