بالطبع، السؤال لا يتعلق بعدد حملة الألقاب ووفرة الشهادات، بل هو سؤال في الدور والمعنى والوظيفة. سؤال يلحّ على كلما ازداد الضجيج وقلّ التفكير، وكلما امتلأت المنصات بأصوات تتشابه حتى ليظن المرء أن شخصاً واحدًا يتكلم بألسنة متعددة.
المثقف ليس كائنًا محايدًا، ولا موظفًا عند السلطة أو الجمهور، بل هو ضمير قلق، ووظيفة إزعاج أخلاقي وفكري. إنه، في التصور الأصيل، من يجرؤ على قول ما لا يُقال، ومن يقف في المسافة الحرجة بين الحقيقة والإنكار، لا من يذوب في أحدهما.
ما نراه اليوم هو سباق محموم نحو الشهادات والالقاب الوهمية، لا بوصفها أدوات معرفة، بل كزينة اجتماعية. شهادات تُحصّل من جهات ودول ضعيفة، أو حتى من جامعات وهمية، أو مؤسسات في دول غير موثوقة علميًا، لا تضيف إلى العقل عمقًا، ولا إلى البحث صرامةً، لكنها تمنح صاحبها لقبًا يُستثمر في المناسبات والخطاب العام. ليتحول التعليم من مسار تحرّر إلى سلعة، ومن مسار نقدي إلى ختم جاهز للبيع والاستهلاك.
الأخطر من ذلك أن جزءًا كبيرًا من النخبة، التي يُفترض بها قيادة النقاش العام، انجرفت إلى لغة وثقافة السوشيال ميديا: لغة سريعة انفعالية، قائمة على الاختزال والشعبوية والاستقطاب، لغة لا تحتمل التعقيد ولا تصبر على الفكرة. ومع هذا الانجراف، لم تعد الفكرة تُختبر بعمقها، بل بعدد الإعجابات التي تحصدها، ولم يعد الرأي يُقاس بقوته المنطقية، بل بمدى رواجه. ليسود رأي القطيع؛ آراء جاهزة، متداولة، يعاد إنتاجها دون مساءلة، خوفًا من العزلة أو الاتهام أو خسارة الجمهور. والمثقف، بدل أن يستفز عقول الناس، صار يراعي مزاجها، وبدل أن يرفع سقف الأسئلة، خفضه ليبقى مقبولًا ومحبوبًا.
فالسؤال مرة أخرى: هل لدينا مثقفون؟
بالتأكيد لدينا مدَّعون كثر، وهم يعرفون أنهم مدَّعون، وبعضنا يعرف ادعاءهم. وبلا شك لدينا متعلمين، ومحللين، ونجوم رأي. لكن المثقف، بالمعنى الذي يقلق ويزعج ويخاطر، يبدو نادرًا! فالمثقف الحقيقي لا يطمئن الجماهير، بل يوقظها، ولا يكرر ما تعرفه، بل يضعها أمام ما تفضل تجاهله.
لسنا بحاجة إلى مزيد من الشهادات، ولا إلى أصوات أعلى، بل إلى شجاعة فكرية. إلى مثقف لا يخجل من الاختلاف، ولا يختبئ خلف القطيع، ولا يختزل دوره في منشور عابر. عندها فقط، يمكن أن نعيد طرح السؤال،
لا بمرارة: هل لدينا مثقفون؟
بل بأمل: كيف نصنعهم؟ وكيف نمكّنهم من أخذ دورهم؟