بين الممكن والمأمول: فنّ القرار الناضج
م. رياض الخرابشة
18-12-2025 11:04 AM
بين الحل الواقعي والحل الأمثل تمتدّ مساحة فكرية دقيقة، هي الأخطر والأكثر حساسية في صناعة القرار. في هذه المساحة لا يُختبر حجم الطموح بقدر ما يُختبر نضج الإدارة، ولا تُقاس جودة الفكرة بلمعانها، بل بقدرتها على العبور من الورق إلى الواقع دون أن تنكسر في الطريق.
الحل الأمثل هو ذلك الذي نراه عندما ننزع عن المشكلة كل قيودها. هو الصورة الأكمل، والأكثر اتساقًا مع المعايير النظرية، والأقرب إلى الكفاءة المطلقة. يظهر في الدراسات المتقنة، ويُعرض في الشرائح الأنيقة، ويُستدعى كنموذج يُحتذى. غير أن هذا الحل، في كثير من الأحيان، يفترض شروطًا لا تجتمع بسهولة: موارد مكتملة، وقت مفتوح، تشريعات مستقرة، مؤسسات منسجمة، وثقافة جاهزة للتغيير. إنه حل صحيح في منطقه، لكنه هشّ في بيئته إن لم تُهيّأ له الأرضية المناسبة.
في المقابل، يأتي الحل الواقعي أقل بريقًا، لكنه أكثر التصاقًا بالأرض. لا يدّعي الكمال، ولا يَعِد بالقفز السريع، لكنه يملك ميزة حاسمة: قابلية التنفيذ. ينطلق من فهم عميق لما هو متاح فعلًا، لا لما نتمنى أن يكون متاحًا. يعترف بالقيود دون أن يستسلم لها، ويقرأ الواقع كما هو: قدرات بشرية متفاوتة، أنظمة قديمة، موارد محدودة، زمن ضاغط، وتوازنات مؤسسية معقّدة. الحل الواقعي لا يقتل الطموح، بل يعيد تنظيمه، ويحوّله من قفزة غير محسوبة إلى مسار متدرّج قابل للتحقق.
المعضلة الحقيقية لا تكمن في تفضيل أحد الحلّين على الآخر، بل في الخلط بينهما. حين يُسوَّق الحل الأمثل بوصفه حلًا واقعيًا، تبدأ الإخفاقات بالظهور تباعًا: سياسات تتعثر، مشاريع تتوقف، وقرارات تفقد مصداقيتها لأن الفجوة بين الفكرة والتنفيذ كانت أوسع مما يُحتمل. وعلى النقيض، حين يُتعامل مع الحل الواقعي على أنه نهاية الطريق لا بدايته، يتجمد الأداء، ويتحوّل الواقع إلى سقف دائم، وتُغلق الأبواب أمام التطوير بحجة “ما هو ممكن الآن”.
الإدارة الناضجة هي التي تميّز بدقة بين المستويين، وتعرف كيف تُدير المسافة بينهما. فهي تدرك أن الحل الواقعي ليس تنازلًا عن الطموح، بل نقطة انطلاق ذكية. وتفهم أن الحل الأمثل ليس شرطًا للبداية، بل بوصلة توجّه المسار. أما الفجوة بين الاثنين، فلا تُردم بالقفز ولا بالشعارات، بل بالتدرّج، وبناء القدرات، وتراكم الخبرة، وتعديل السياسات خطوة بعد أخرى.
في التجارب المؤسسية التي نجحت واستدام أثرها، لم يكن السؤال المحوري: ما هو أفضل حل نظريًا؟ بل كان السؤال الأهم: ما الذي يمكن تنفيذه الآن، بطريقة لا تُغلق الطريق أمام الأفضل لاحقًا؟ هذا السؤال البسيط في صياغته، العميق في أثره، هو ما يميّز القرار الذكي عن القرار المتسرّع.
وهنا، تحديدًا، يُصنع القرار الرشيد: قرار لا يكتفي بالنجاة من ضغط الواقع، ولا يتيه في وهم المثالية، بل يبني جسرًا هادئًا ومتزنًا بين الممكن اليوم، والمأمول غدًا. قرار يفهم أن الإدارة ليست فن اختيار الحلول الأجمل، بل فن إدارة الطريق بينها