هل حواسنا فعلا 5؟ .. العلم يتحدث الآن عن 33 في شبكات معقدة
24-12-2025 03:54 PM
عمون - اعتاد البشر، منذ أيام أرسطو، الاعتقاد بأن الإنسان يمتلك خمس حواس فقط: البصر، السمع، الشم، التذوق، واللمس. لكن كما تخلّى العلم منذ قرون عن فكرة العناصر الخمسة التي قال بها الفيلسوف اليوناني، فإن الأبحاث الحديثة تدفع اليوم نحو إعادة التفكير جذرياً في مفهوم الحواس الإنسانية.
فبحسب دراسات حديثة في علم الأعصاب والإدراك الحسي، قد يمتلك الإنسان ما بين 22 و33 حاسة مختلفة، تعمل معاً في شبكة معقدة تشكّل تجربتنا اليومية للعالم ولأجسادنا.
تجربة حسية متكاملة
ورغم أننا نميل إلى التفكير في الحواس بوصفها قنوات مستقلة، فإن التجربة الإنسانية في الواقع متعددة الحواس بطبيعتها. فنحن لا نرى أو نسمع أو نلمس بشكل منفصل، بل نختبر العالم كوحدة متكاملة.
ما نراه يؤثر فيما نسمعه، وما نشمه يؤثر فيما نلمسه، بل حتى فيما نذوقه. فالعطر المستخدم في الشامبو، على سبيل المثال، يمكن أن يجعل الشعر يبدو أكثر نعومة، رغم أن التركيب الفيزيائي للشعرة لم يتغير. كما أن الروائح المضافة إلى الزبادي قليل الدسم قد تمنحه إحساساً بالقوام الغني والكثافة، دون إضافة دهون أو مستحلبات.
حواس لا ننتبه إليها
ويشير علماء الأعصاب إلى وجود حواس لا نلاحظها عادة، لكنها تعمل باستمرار. من بينها "الإحساس الموضعي" (Proprioception)، وهو ما يتيح لنا معرفة موضع أذرعنا وأرجلنا من دون النظر إليها. كما أن الإحساس بالتوازن يعتمد على جهاز التوازن في الأذن الداخلية، إضافة إلى البصر والإحساس الموضعي معاً.
وهناك أيضاً "الإحساس الداخلي" (Interoception)، الذي يمكّننا من الشعور بتغيرات داخل أجسامنا، مثل تسارع ضربات القلب أو الشعور بالجوع أو الامتلاء. ويضاف إلى ذلك "الإحساس بالسيطرة" أو الوكالة، أي شعورنا بأننا من نحرّك أطرافنا بإرادتنا، وهو إحساس قد يفقده بعض مرضى السكتات الدماغية.
كما توجد "حاسة الملكية الجسدية"، التي تجعلنا نشعر بأن أطرافنا تنتمي إلينا. وفي بعض الحالات العصبية، قد يشعر المريض بأن ذراعه ليست ملكه، رغم قدرته على الإحساس بها.
التذوق أكثر تعقيداً مما نعتقد
وفي الدراسات الحديثة، فإن ما نسميه "التذوق" ليس حاسة واحدة، بل مزيج من ثلاث حواس، هي التذوق، والشم، واللمس. فمستقبلات التذوق على اللسان لا تميّز سوى خمس نكهات أساسية: الحلو، والمالح، والحامض، والمر، وما يعرف بـ"الأومامي" أو الطعم اللذيذ.
أما نكهات الفواكه، مثل الفراولة أو التوت أو المانغو، فلا توجد لها مستقبلات خاصة على اللسان. بل ندركها عبر الروائح التي تنتقل من الفم إلى الأنف أثناء المضغ أو الشرب، في عملية تُعرف بالشم الخلفي. ويلعب اللمس دوراً إضافياً في هذه التجربة، إذ يربط بين الطعم والرائحة ويحدد تفضيلاتنا لقوام الطعام، سواء كان طرياً أو متماسكاً أو كريميّاً.
النظر والشعور
حتى الرؤية نفسها لا تعمل بمعزل عن بقية الحواس. ففي الطائرة، على سبيل المثال، يبدو للراكب أثناء الإقلاع أن مقدمة المقصورة ترتفع، رغم أن المشهد البصري لم يتغير فعلياً. هذا الإحساس ناتج عن تفاعل الرؤية مع إشارات جهاز التوازن في الأذن، التي تخبر الدماغ بأن الجسم يميل إلى الخلف.
كما أظهرت أبحاث متعددة أن ضجيج الطائرات يقلل من قدرتنا على تمييز الطعمين الحلو والمالح، لكنه لا يؤثر في طعم "الأومامي". وبما أن الطماطم غنية بهذا الطعم، فإن عصير الطماطم يبدو أكثر لذة على متن الطائرة مقارنة بالأرض، وهو تفسير علمي لعادة شائعة بين المسافرين.
إعادة التفكير في الحواس
وفي مركز دراسة الحواس بجامعة لندن، يعمل فلاسفة وعلماء أعصاب ونفسيون معاً لفهم هذا التعقيد. وقد أظهرت أبحاثهم، من خلال تجارب تفاعلية، كيف يمكن لتعديل صوت خطوات الإنسان أن يجعله يشعر بأن جسمه أخف أو أثقل، أو كيف تساعد الأدلة الصوتية في المتاحف على تحسين تذكر التفاصيل البصرية للوحات الفنية.
كما كشفت تجارب أخرى عن "وهم الحجم والوزن"، حيث يبدو الحجر الصغير أثقل من الكبير، رغم تساوي وزنهما فعلياً، ما يؤكد أن الإحساس ليس دائماً انعكاساً دقيقاً للواقع الفيزيائي.
وتكشف هذه الأبحاث أن حواسنا أكثر تعقيداً وثراءً مما نظن، وأنها تعمل في تناغم دائم لتشكيل تجربتنا مع العالم. وربما يكفي أن نتوقف لحظة، أثناء السير أو تناول الطعام أو الاستماع إلى الأصوات من حولنا، لندرك كيف تتداخل هذه الحواس لتمنحنا إحساساً كاملاً بالحياة.