حين يصبح التعايش اختبارًا للصدق
د. محمود الشغنوبي
25-12-2025 11:17 AM
في المجتمعات المتعدّدة، لا يُختبر التعايش في الأيام العادية، بل عند لحظات الحساسيّة العالية، حين يقترب الناس من مناطق المعنى لا من مساحات العيش المشترك. هناك، يظهر الخلط القديم المتجدّد بين الاحترام والتنازل، وبين الوضوح والاستفزاز.
التعايش لا يطلب من الإنسان أن يُخفّف قناعاته، بل أن يُحسن التعبير عنها.
فالقناعة التي لا تعرف لغتها تتحوّل سريعًا إلى ضجيج، وإلى مواقف متشنّجة تعتقد أنها تحمي المعنى، بينما هي في الحقيقة تُشوّه صورته وتدفع الآخرين إلى الشك فيه.
الديانات ليست بيانات احتجاج، ولا لافتات تُرفع في الساحات.
هي منظومات أخلاق ومعنى، تُقدَّم بالثبات والاتساق، لا بالاصطفاف والانفعال. وحين يتحوّل الرفض العقدي إلى استعراض جماعي، يفقد قيمته الفكرية، ويغدو أقرب إلى ردّة فعل منه إلى موقفٍ واعٍ.
الإنسان الواضح لا يحتاج إلى إعلان رفضه على الملأ ليكون مخلصًا لقناعته.
يكفيه أن يعرف أين يقف، وأن يتصرّف وفق ذلك دون صخب. فالصدق لا يُقاس بارتفاع الصوت، بل بعمق الفهم، ولا يُثبت بالإحراج العلني، بل بالاتزان.
ثمّة مبالغة في الظنّ بأن التهاني هي ما يصنع العيد أو يُسقطه.
الأعياد لا تقوم على الرسائل، ولا تزول بالصمت. من يفرح بعيده سيفرح به سواء سمع تهنئة أم لم يسمع، ومن يحتفل سيحتفل مهما اختلفت المواقف من حوله. فالعيد فعل إيمان عند أصحابه، لا استفتاءً عامًا ولا امتحانًا اجتماعيًا.
تهنئتي أو امتناعي عنها لا تغيّر من حقيقة العيد شيئًا، كما أن تهنئتك لي أو عدمها لا تنقص من فرحتي ولا من قناعتي. الأعياد قائمة بأهلها، والفرح حقّهم الطبيعي، لا يمنحه أحد ولا يمنعه أحد. ولهذا، فإن تحميل هذه التفاصيل أكثر مما تحتمل لا يخدم المحبة ولا يحمي العقيدة، بل يحوّل الفرح إلى ساحة توتر لا ضرورة لها.
تحويل الاختلاف الديني إلى حالة تعبئة دائمة لا يخدم التعايش ولا يخدم الإيمان.
بل يخلق مناخًا مشحونًا، يُساء فيه فهم النوايا، ويُختزل فيه الدين في مواقف موسمية، بدل أن يُعاش كقيمة أخلاقية مستمرة، تظهر في السلوك قبل الشعارات.
لكن الدين، في جوهره الأعمق، لم يأتِ ليصنع خصوماتٍ دائمة، بل ليُهذّب العلاقة بين الناس.
الحب، هنا، ليس ذوبانًا في الآخر، بل اعترافًا بإنسانيته. هو القدرة على أن أختلف دون أن أُبغِض، وأن أتمسّك بحقي دون أن أنزع حقّ غيري.
والاتفاق لا يعني أن نؤمن بالشيء نفسه، بل أن نتفق على طريقة العيش معًا.
أن نختلف بكرامة، وأن نحتكم إلى القيم المشتركة: العدل، الرحمة، حفظ الكرامة، ورفض الأذى. وهذه ليست قيمًا طارئة ولا شعارات حديثة، بل جذور دينية وأخلاقية ضاربة في عمق التاريخ.
الإنسان لا يُحترم لأنه شارك، ولا يُدان لأنه لم يُشارك.
ما يُحاسَب عليه هو سلوكه: هل أحبّ الناس أم آذاهم؟ هل أصلح أم أفسد؟ فالدين الذي لا يترك أثره في الرحمة، يتحوّل إلى عبءٍ على أصحابه قبل غيرهم.
التعايش الحقيقي لا يُبنى على المجاملة ولا على الاستفزاز، بل على الحب العاقل.
حبٍّ يعرف حدوده، ويحترم الفروق، ويؤمن أن المجتمع القوي ليس ذاك الذي يُلغي الاختلاف، بل الذي يحوّله إلى مساحة معرفة، لا إلى وقود صراع.
وفي النهاية، قد لا نتفق على العقائد، لكننا قادرون — بل مسؤولون — أن نتفق على الإنسان.
وسلامتكم.