وصيّة رسول الله ﷺ إلى أهل اليمن: نداء في زمن الفتنة
عميد متقاعد عارف الزبن
25-12-2025 02:40 PM
لقد أحببتُ اليمن أرضًا وشعبًا؛ سماءً وجبالًا وبحارًا، سهولًا وصحارى وجزرًا وهواءً. ولم تكن هذه المحبة وليدة قراءةٍ أو رواية، بل ثمرة معايشةٍ وتجربةٍ شخصيةٍ صادقة. في عام 2008، تشرفتُ بالعمل مستشارًا لقائد القوات الخاصة والحرس الجمهوري اليمني، في منطقتي الصُباحة والسَواد في صنعاء، حيث تقف الجبال الشامخة تعانق السماء، مطلّةً على عاصمة التاريخ والحضارة صنعاء الحبيبة.
هناك عرفتُ اليمن عن قرب، وعرفتُ أهله، ولمستُ طيبة قلوبهم ورقّتها. كنتُ في كل صباح أستمع إلى النشيد الوطني اليمني من أفواه رجال القوات الخاصة، بحناجر صادقة، يتردد صداه بين جبل نُقم وجبال بني مطر، حتى تعلّق في وجداني كما تعلّق نشيد وطني الأردن.
لم تكن تلك الأيام مجرّد مهمة عسكرية، بل تجربة إنسانية عميقة، شكّلت قناعةً راسخة بمكانة اليمن وأهله في وجدان الأمة الاسلامية.
ولن انسى كلمات النشيد الوطني اليمني: "ردّدي أيتها الدنيا نشيدي، ردّديه وأعيدي وأعيدي ...واذكري في فرحتي كل شهيد، وامنحيه حللاً من ضوء عيدي ...وحدتي… وحدتي…يا نشيدًا رائعًا يملأ نفسي، أنتِ عهدٌ عالقٌ في كل ذمّة... يا نسيجاً حِكته من كل شمس، اخلدي خافقه في كل قمة...امنحيني البأس يا مصد بأسي، واذخريني لك يا أكرم أمة ...عشتُ إيماني وحبّي أمميًّا... ومسيرتي فوق دربي عربيّا ... وسيبقى نبض قلبي يمنيّا... لن ترى على أرضي وصيّا"
ومن هذا المنطلق، يخرج هذا النداء الصادق من قلبي قبل قلمي: ما الذي يحدث اليوم في اليمن؟
وكيف بلغ الانقسام والاقتتال هذا الحد، في بلدٍ أثنى عليه رسول الله ﷺ وأوصى بأهله خيرًا؟
لقد كانت اليمن عبر التاريخ أرض الأنبياء والحِكمة، ومنبت العرب العاربة والمستعربة، وموطن قحطان وعدنان ويشجب ويعرب وسبأ. وقد خصّها الله تعالى بالذكر في مُحكم التنزيل في سورة سبأ، الآية 14فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ… بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾.
كما ورد ذكرها اهل اليمن في السنة النبوية الشريفة، وبشّر بها رسول الله ﷺ بإتمام هذا الدين حين قال: في معرض الحديث النبوي الشريف "…. والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت": وهو من رفع شأنكم مثنيا عليكم وفضلكم بالإيمان والحكمة والفقه فقال ﷺ "الإيمان يمان والحكمة يمانية" ووصفكم بانكم الين قلوبا وارق افئدة.
أنتم من صاهرتم وربّيتم وحميتم نبيّ ورسول الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وآويتم وأنستم امّ العرب ستنا هاجر؟ ارضكم ارض انبياء، وأنتم أشراف العرب احفاد سبأ الذي عندما سأل رجل رسول الله ﷺ ….: " يا رسولَ اللَّهِ، وما سَبأٌ، أرضٌ أو امرأةٌ؟ قالَ: ليسَ بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولَكِنَّهُ رجلٌ ولدَ عشرةً منَ العربِ فتيامنَ (سكن باليمن) منهم ستَّةٌ، وتشاءمَ (سكن بالشام) منهم أربعةٌ. فأمَّا الَّذينَ تشاءموا فلَخمٌ، وجُذامُ، وغسَّانُ، وعامِلةُ، وأمَّا الَّذينَ تيامنوا: فالأزدُ، والأشعريون، وحِميرٌ، وَكِندةُ ومَذحِجٌ، وأنمارٌ، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ما أنمارٌ؟ قالَ: الَّذينَ منهم خثعَمُ، وبَجيلةُ.
أنتم أحفاد الأوس والخزرج، وأصل الغساسنة والمناذرة، ومنكم ملوك اليمن، تبّع (تُبان) بن يعرب بن يشجب الحميري، أول من كسا الكعبة، والذي قال فيه رسول الله ﷺ: والذي أسلم لله وحده قبل بعثة النبي ﷺ بأكثر من ستمائة عام، وقبل مولد عيسى عليه السلام فقال عنه رسول الله ﷺ " لا تسبوا تبّع فإنه كان قد أسلم “، ومنكم سيف بن ذي يزن، محرّر اليمن من الغزو الحبشي، وطارد المستعمرين.
أنتم اهل الايمان والوفاء في الامة الاسلامية. حين أقبلتم أفواجًا على رسول الله ﷺ، ففرح وأعجب بكم متبسما وسألكم: قائلا ﷺ: "ما أنتم؟" فقلتم: "مؤمنون". فتبسم رسول الله ﷺ قائلا : " إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟" فعددتم له خصالكم قائلين: " أن لنا خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئا.
فقال رسول الله ﷺ " ما الخمسة التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟" فقلتم: " أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت".
فقال: ﷺ "وما الخمسة التي أمرتكم أن تعملوا بها؟ " فقلتم:" أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع إليه سبيلا".
فقال ﷺ: "وما الخمسة الذي تخلقتم بها في الجاهلية؟ " فقلتم:" الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء".
فقال رسول الله ﷺ " حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء". ثم أوصاكم وصيّته العظيمة: فقال: ﷺ "وأنا أريدكم خمسا فيتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون " فانصرف القوم (اهل اليمن) من عند رسول الله وحفظوا وصيته، وعملوا بها.
فما بالكم اليوم؟ ويحكم! أأنسيتم وصية رسول الله ﷺ؟ أنسيتم أن أمنَ صنعاء مقرونٌ بأمن حضرموت؟ أنسيتم خِصالَكم التي عاهدتم عليها رسولَ الله ﷺ: تركَ الشماتة بالأعداء، وتركَ التنافس، وحفظَ العهد؟ نعم، أنتم أهلُ الإيمان، وأهلُ الحكمةِ العميقةِ المتجذّرة فيكم. ولا أريد أن أُكثر من مدحكم؛ فحسبُكم أن رسولَ الله ﷺ قد مدحكم، وأثنى على خِصالكم، وشهد لحكمتكم. فكونوا على قدر هذه الأمانة.
يا أهل اليمن، بلادكم بلاد خير، تحيط بكم البحار، وتحت أقدامكم النفط والغاز، وتاريخكم شاهد أنكم أسقطتم أطماع أعظم الإمبراطوريات، فأرضكم عصيّة على الانكسار والتقسيم.
وفي الختام، كيف تُنسى وثيقةُ العهدِ والاتفاق وكيف يُنسى اللقاءُ التاريخي عام 1994، حين شرّفتم الأردن بلقاء الشريف الهاشمي الحسين بن طلال (رحمه الله)؟ فالعهدُ عهدٌ، والميثاقُ أمانة. فاحفظوا أولًا وصيّةَ رسولِ الله ﷺ، واعملوا بها، فهي أمانةٌ في أعناقكم إلى يوم الدين. واحفظوا ثانيًا بلادَكم، واحذروا الفتنة؛ فإنها نائمة، لعن الله من أيقظها.
واحفظوا ثالثًا عهدَ وميثاقَ عمّان.