تقييم التعلّم في عصر الذكاء الاصطناعي: هل انتهى الامتحان التقليدي؟
د. الاء طارق الضمرات
25-12-2025 03:58 PM
شهد التعليم في العقود الأخيرة تحولات جذرية بفعل التطور التكنولوجي السريع، وكان الذكاء الاصطناعي أبرز هذه التحولات، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة للمعلمين، بل أصبح عاملاً مؤثرًا يعيد تعريف العملية التعليمية، وخاصة في مجالي التقييم والامتحانات التقليدية، ومع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على توليد الإجابات وحل المسائل وتحليل البيانات بسرعة فائقة، يواجه النظام التعليمي تساؤلاً جوهريًا: هل ما زال الامتحان التقليدي قادرًا على قياس التعلم الحقيقي، أم أننا بحاجة إلى إعادة تعريف شامل لمفهوم التقييم؟
تأتي أهمية هذا السؤال من أن الامتحان التقليدي اعتمد تاريخيًا على قياس قدرة الطالب على استرجاع المعلومات في زمن محدد، مع افتراض أن ذلك يمثل مؤشرًا كافيًا على التعلم، لكن هذا النموذج أصبح محدودًا في ظل الأدوات الذكية، التي تسمح للطلاب بتجاوز الحاجة للحفظ وتقديم إجابات جاهزة دون فهم حقيقي للمحتوى الدراسي.
وفيما يتعلق بفلسفة الامتحان التقليدي وحدوده فإن الامتحان التقليدي يعتمد على قياس ما يعرفه الطالب في لحظة محددة، ويركز في الأساس على الجانب المعرفي للتعلم، متجاهلًا غالبًا المهارات العليا مثل التفكير النقدي والتحليل وحل المشكلات، كما تتأثر نتائجه بعوامل نفسية وظرفية، بما في ذلك القلق والضغط الزمني والظروف الصحية للطالب، وأظهرت الدراسات الحديثة أن التعلم عملية تراكمية وسياقية وتفاعلية، لا يمكن اختزالها في اختبار نهائي قصير، فالامتحانات التقليدية غالبًا ما تقيس القدرة على الاسترجاع فقط، وليس القدرة على التطبيق أو الابتكار، مما يجعلها غير مناسبة لقياس الكفاءات الفعلية للطلاب في بيئات تعليمية متغيرة ومعقدة.
ومع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل ChatGPT، أصبح بإمكان الطالب توليد إجابات دقيقة خلال ثوانٍ، وتحليل بيانات معقدة دون امتلاك معرفة عميقة بالمادة، فضلاً عن اجتياز الاختبارات الكتابية بسرعة، مما يقلل الحاجة إلى الفهم الحقيقي للمحتوى، وهذا الوضع كشف هشاشة الامتحانات التقليدية، إذ أصبح التركيز منصبًا على القدرة على الوصول للإجابة وليس على فهم الطالب العميق للمادة، كما أظهرت هذه التطورات محدودية أساليب كشف الغش التقليدية، التي لم تعد فعالة أمام أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
ويتحول التركيز في عصر الذكاء الاصطناعي من مجرد قياس المعرفة النظرية إلى تقييم الكفاءات الفعلية للطلاب، وأصبح التقييم يهدف إلى قياس التفكير النقدي وحل المشكلات، والقدرة على التحليل والتركيب والتقويم، فضلاً عن الإبداع والابتكار في المواقف الواقعية، والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في حل المشكلات التعليمية، وهذا التحول يعكس تغييرًا جوهريًا في فلسفة التعليم، من سؤال "ماذا يعرف الطالب؟" إلى سؤال أعمق: "ماذا يستطيع الطالب أن يفعل بما يعرفه؟"
واستجابة لهذه التحولات، ظهرت نماذج تقييم حديثة تتناسب مع العصر الرقمي، أبرزها التقييم القائم على المشاريع، حيث يُطلب من الطالب تقديم مشاريع تطبيقية تعكس فهمه العميق للموضوع، مع توثيق خطوات التفكير والقرارات المتخذة، مما يقلل الاعتماد على الإجابات الجاهزة، كما برز التقييم القائم على الأداء، الذي يركز على ملاحظة أداء الطالب في مواقف تعليمية حقيقية أو محاكاة رقمية، ويقيس مهارات التطبيق والتفاعل، وفي المقابل يوفر التقييم التكويني المستمر متابعة دورية للطالب من خلال المهام القصيرة والتغذية الراجعة الفورية، ليصبح التقييم جزءًا من عملية التعلم نفسها وليس مجرد أداة للحكم، بالإضافة إلى ذلك تعد ملفات الإنجاز الرقمية أداة فعالة لتوثيق تطور الطالب عبر الزمن، وتعكس مهاراته ومعرفته ومساهماته العملية، بما يتيح تقييمًا أكثر شمولية واستدامة.
ورغم مزايا هذه البدائل، يواجه التعليم تحديات كبيرة عند تطبيقها. أولاً، هناك حاجة ملحة لتطوير قدرات المعلمين على استخدام أساليب تقييم حديثة تتوافق مع المتطلبات الجديدة. ثانيًا، قد تقاوم بعض المؤسسات التعليمية التحول نحو نماذج تقييم مبتكرة بسبب البيروقراطية والعادات المتأصلة، كما أن تصميم أنظمة تقييم تراعي العدالة وتحد من التحيز الخوارزمي يعد تحديًا إضافيًا، فضلاً عن الحاجة إلى بنية تحتية رقمية قوية لدعم التعلم والتقييم الإلكتروني بشكل فعّال.
ويمكن القول إن الامتحان التقليدي لم ينتهِ بالكامل، لكنه فقد وحدته كمقياس شامل للتعلم، والمستقبل سيكون للتقييم متعدد الأبعاد، الذي يقيس القدرة على حل المشكلات الواقعية، والتفكير النقدي والتحليلي، والإبداع والابتكار، بالإضافة إلى الاستخدام الأخلاقي والتفاعلي للتقنيات الحديثة بما فيها الذكاء الاصطناعي، وبهذا يتحول التقييم من أداة حكم جامدة إلى أداة تطوير وبناء للقدرات الحقيقية للطلاب، مما يجعل التعليم أكثر ملاءمة لعالم سريع التغير.
ويؤكد هذا التحول على ضرورة تبني المؤسسات التعليمية استراتيجيات شاملة تدمج بين التقييم التقليدي والحديث، بما يضمن قياس الكفاءات الحقيقية للطلاب وتعزيز مهاراتهم العملية والمعرفية، ويضعهم في موقف استعدادي لمواجهة متطلبات القرن الحادي والعشرين بثقة وكفاءة.