عشاء «هيلدا حياري» الأخير .. يكسر الأسطورة المريحة
26-12-2025 12:38 PM
*قدّم لنا دافينشي «العشاء الأخير» بوصفه مسرحاً للعقل الإنساني أكثر مما هو مكان لارتعاش الروح
*تنتمي حياري إلى زمن ما بعد الأسطورة الأوروبية.. زمن يسأل عن الهوية وحق الشرق في أن يرى نفسه
عمون - قراءة: رمزي ناري
منذ قرون، تحتلّ لوحة «العشاء الأخير» مكانة أيقونية في المخيال البصري الغربي، حتى بات من العسير على المتلقي أن يفصل بين يسوع التاريخي ويسوع النهضة الإيطالية. لوحة ليوناردو دافينشي لم تكن مجرّد عمل فني عظيم، بل تحوّلت إلى مرآة ثقافية أسقطت أوروبا القرن الخامس عشر على حدث فلسطيني يهودي من القرن الأول. وهنا تبدأ الإشكالية: هل ما نراه فنّاً، أم إعادة صياغة لاهوتية - سياسية مغلّفة بجمال لا يُقاوَم؟
عبقرية الرسم
دافينشي، العبقري الذي لا يُجادَل في قدرته التقنية، قدّم لنا «العشاء الأخير» بوصفه مسرحًا للعقل الإنساني أكثر مما هو مكان لارتعاش الروح. القاعة رحبة، الضوء محسوب بدقة رياضية، المنظور المركزي يقود العين حتمًا إلى وجه يسوع، لا بوصفه ابن نجّارٍ جليلي، بل كفيلسوفٍ هادئ يجلس وسط أكاديمية مصغّرة من الحكماء. الوجوه أوروبية صرفة، الأقمشة فاخرة، الألوان نضرة، والطاولة أقرب إلى مائدة نبلاء منها إلى عشاء هاربين ينتظرون المداهمة.
لقد أطنب نقّاد النهضة وما بعدها في تمجيد هذه اللوحة، يكفي أن نستحضر إعجاب جورجيو فازاري، الذي رأى فيها ذروة عبقرية الرسم، أو تحليلات إروين بانوفسكي، التي احتفت بالمنظور والدراما النفسية بوصفهما إنجازًا إنسانيًا غير مسبوق. غير أن هذا الإطراء، على عمقه التحليلي، غالبًا ما كان تجميلًا أكثر منه مساءلة: احتفاءً بالشكل، وصمتًا عن التحريف الثقافي.
فيسوع الذي «ليس له أين يسند رأسه» يظهر في لوحة دافينشي سيدًا للمكان، متصالحًا مع الجدران المزيّنة والفضاء المترف. تلاميذه، صيادو السمك والعشارون، يتحوّلون إلى نخب مثقفة تتجادل ببلاغة، كأنهم فلاسفة رواق أو أعضاء مجلس مدينة فلورنسا. حتى يهوذا، وقد أُخفي في الظلال، لا يحمل تلك القسوة الشرقية، التي تفضح الخيانة في الجسد قبل النظرة.
محاورة مع الأستاذ
هنا، تحديدًا، تأتي صدمة لوحة هيلدا حياري.
الفنانة التشكيلية الأردنية هيلدا حياري لا تحاور دافينشي من موقع التلميذ، بل من موقع الشاهد. لوحتها لا تسأل: كيف نُبهر العين؟ بل: أين كان هؤلاء حقًا؟ وما الذي شمّته أنوفهم؟ وما الذي كان يثقل صدورهم في تلك الليلة؟
في عالم حياري، يتراجع الضوء ليترك المجال للغبار. العلّية ليست قاعة احتفالية، بل ملجأ. الجدران خانقة، النوافذ غائبة، والوجوه متعبة، مشدودة بالخوف. هنا، يعود يسوع إلى الشرق: سحنة سمراء، ملامح قاسية من شمس فلسطين، وهدوء لا يشبه سكينة الفلاسفة، بل سكينة من يعرف أن الفجر سيحمل الصليب.
اختيار اللون الأخضر لثوب يسوع ليس تفصيلًا عابرًا. الأخضر، لون السلام والحياة في المخيال الشرقي، يحلّ محل الأحمر والأزرق الدافينشيين، ألوان السلطة والمجد. يسوع حياري ليس أمير حرب ولا ملكًا سماويًا متوّجًا، بل هو رجل يحمل سلامًا هشًّا وسط عالم عدائي. السلام هنا ليس انتصارًا، بل مقاومة صامتة.
أما التلاميذ، فهم أبناء الشوارع حقًا، وجوههم مشبعة بزناخة السمك، أياديهم خشنة، نظراتهم مترددة. العشارون يحملون ثقل خطاياهم، ويهوذا - الذي غاب تقريبًا عن دراما دافينشي - يحضر هنا بقوة النظرة: نظرة جانبية، متوترة، مراوغة، تقول أكثر مما تقوله الحركة. الخيانة ليست فكرة، بل هي قلق جسدي يتسرّب من العين.
حتى المائدة تشارك في السرد. لا رخام، لا فضة، لا تناظر مثالي. خشب مكسور، صحون فخّار قد تكون مُلملمة من هنا وهناك. هذا العشاء لا يُقام احتفاءً، بل كوداعٍ سريع. الخبز يُكسر كما تُكسر الأجساد، والكأس تمرّ بين الأيدي كعبء، لا كرمزٍ احتفالي مجرّد.
إعادة صياغة للذاكرة
في هذا التباين الحاد، تكمن قوة لوحة حياري، إنها لا «تجمّل» الحدث، بل تُعيده إلى فقره الوجودي. وإذا كانت لوحة دافينشي قد صنعت يسوعًا كونيًا متعاليًا عن الجغرافيا، فإن حياري تعيد إلينا يسوع المحلي، الفلسطيني، القلق والمصمّم في آن.
هذا لا يعني أن نختزل دافينشي في تهمة «السرقة» الفنية فقط، بل أن نضعه في سياقه: ابن عصر آمن بأن الجمال طريق إلى الحقيقة، وأن الإنسان مقياس كل شيء، غير أن هذا الإيمان، حين يتعامل مع حدث ديني – تاريخي، يتحوّل إلى إعادة صياغة للذاكرة الجماعية. يسوع النهضة هو يسوع أوروبا، شاء الفنانون أم أبوا.
في المقابل، تنتمي حياري إلى زمن ما بعد الأسطورة الأوروبية. زمن يسأل عن الهوية، عن الاستعمار البصري، عن حق الشرق في أن يرى نفسه في أيقوناته. لوحتها ليست ردًّا تقنيًا على دافينشي، بل هي ردّ أخلاقي. إنها تقول: كفى تجميلًا. كفى اقتلاعًا للحدث من تربته.
الحقيقة البصرية
لهذا، تبدو آراء بعض النقّاد الغربيين، الذين ما زالوا يقدّمون «العشاء الأخير» الدافينشي بوصفه الحقيقة البصرية المطلقة، آراء ناقصة. نعم، اللوحة عبقرية في تكوينها، لكنها عبقرية تُخفي بداخلها عملية «ترويض» لحدث ثوري، فقير، ومقلق، هي تجميل لا يُنكر، لكنه يبقى تجميلًا.
لوحة حياري، على العكس، تُقلق العين. لا تمنح راحة المنظور، ولا انسجام الألوان، لكنها تمنح صدقًا نادرًا. صدقًا يعيد يسوع إلى جذوره، ويعيدنا نحن- مشاهدين شرقيين وغربيين - إلى السؤال الأهم: أي يسوع نريد أن نراه؟ يسوع المتحف، أم يسوع العلّية الخانقة؟
بين اللوحتين، لا يقف المتلقي أمام خيار جمالي فحسب، بل أمام خيار ثقافي ولاهوتي. دافينشي يقدّم يسوعًا صالحًا للعالم الإمبراطوري، فيما حياري تقدّم يسوعًا لا يزال مرفوضًا، ملاحقًا. وربما، في هذا التمرد، تكمن الحقيقة التي حاول الفن، طويلًا، أن يلطّفها.
إن سحر الشرق في لوحة حياري لا يكمن فقط في الملامح والألوان، بل في الجرأة على كسر الأسطورة المريحة، إنها تذكير بأن الفن، حين ينسى جذوره، يتحوّل إلى زخرفة، وحين يستعيدها، يصبح شهادة. وفي زمنٍ نحتاج فيه إلى شهادات أكثر من تحف، تبدو هذه اللوحة فعل مقاومة بصرية بامتياز.
"القبس الكويتية"