إصلاح الضمان .. العدالة أولا أم الأرقام؟
جهاد المنسي
29-12-2025 10:55 AM
لم يعد الجدل الدائر حول مشروع قانون الضمان الاجتماعي خلافًا تقنيا بين خبراء أرقام، ولا سجالا محصورًا في جداول اكتوارية تُستدعى عند الحاجة.
ما يجري هو نقاش سياسي–اجتماعي بامتياز، يتمحور حول سؤال بسيط في صياغته، عميق في تبعاته: من سيدفع ثمن إصلاح قانون الضمان الاجتماعي، فعندما يُفتح ملف الضمان، تُفتح معه حسابات أعمار كاملة بُنيت على قانون قائم، واقتطاعات دُفعت على أساس تعاقد واضح بين المؤسسة والمواطن: ادفع اليوم لتأمن غدك.
من هنا، يصبح أي تعديل تشريعي في هذا الملف مسألة ثقة قبل أن يكون مسألة أرقام، فالقوانين الاجتماعية لا تُقاس فقط بقدرتها على تحقيق الاستدامة المالية، بل بمدى حفاظها على الطمأنينة العامة، وعلى شعور المواطن بأن المؤسسة لا تغيّر قواعد اللعبة في منتصف الطريق.
ولهذا فإن المساس بحقوق مكتسبة لمشتركين أكملوا شروطهم القانونية يضرب جوهر العقد الذي حصل، ويحوّل الإصلاح إلى مصدر قلق جماعي، لا إلى أداة حماية.
قضية الحقوق المكتسبة يجب أن تكون نقطة الانطلاق لأي نقاش جاد؛ وأي تعديل يُطبّق بأثر رجعي، أو يطال من رتّب حياته على أساس تشريع نافذ، يُفقد القانون مشروعيته الأخلاقية قبل الدستورية، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من حماية من هم داخل المنظومة، لا من تحميلهم كلفة تصويب لم يشاركوا في صناعته.
أما رفع سن التقاعد، فيبدو في بعض الطروحات وكأنه حل سحري لأزمة مالية معقدة، متجاهلا واقع سوق العمل الأردني، إذ كيف يمكن المطالبة بإطالة سنوات العمل في سوق يعاني من بطالة مرتفعة، وفرص تشغيل محدودة، وتفضيل واضح للفئات العمرية الأصغر؟
الإصلاح لا يكون بقرارات حسابية باردة، بل بسياسات مرنة تراعي طبيعة المهن، وقدرة العامل الفعلية على الاستمرار، دون تحويل سنوات إضافية إلى عبء نفسي واقتصادي.
وفي صميم النقاش، تقف معادلة احتساب الراتب التقاعدي بوصفها جوهر فلسفة الضمان، فالراتب التقاعدي ليس مكافأة ولا منحة، بل هو حصيلة اقتطاعات شهرية متراكمة، وأي تخفيض في نسب الاحتساب، أو اعتماد صيغ تُنتج رواتب لا تكفي لتأمين حدّ الكرامة، يعني نقل المخاطر من النظام إلى الأفراد، وتفريغ الضمان من معناه الاجتماعي.
ويأتي التقاعد المبكر كأحد أكثر الملفات إثارة للجدل؛ فالتعامل معه بوصفه خللًا مطلقًا يتجاهل واقع آلاف العاملين في المهن الشاقة، أو من خرجوا قسرًا من سوق العمل، أو وجدوا أنفسهم بلا بدائل حقيقية.
ولذا فإن معالجة كلفة التقاعد المبكر لا يتم من خلال إلغائه أو تجفيفه، بل عبر إصلاح سوق العمل نفسه، وخلق فرص تشغيل حقيقية تقلل اللجوء إليه بدل شيطنته؛ ومن هنا فإنه لا يمكن القفز فوق حقيقة أن أموال الضمان الاجتماعي هي ملك للمشتركين واستخدامها لتغطية عجز الموازنات أو تمويل سياسات عامة يقوّض الثقة، ويحوّل صندوق الأمان إلى أداة مالية. المطلوب إدارة استثمارية مهنية، وحوكمة صارمة، وشفافية كاملة في القرارات، لأن الثقة حين تُكسر في هذا الملف يصعب ترميمها.
كما أن تأمينات الشيخوخة والعجز والوفاة تشكّل خط الدفاع الأخير عن كرامة الإنسان بعد العمل وأي تضييق عليها، أو تعقيد في استحقاقها، لا يُقاس أثره بالأرقام، بل بما يخلّفه من هشاشة اجتماعية وخوف مشروع على المستقبل.
ولا يقل أهمية تأمين التعطل عن العمل، الذي يجب أن يبقى أداة حماية حقيقية لا إجراءً شكليًا؛ وتقليصه أو تشديد شروطه يُفرغ فلسفته، بينما المطلوب تطويره وربطه بسياسات تدريب وتشغيل فعّالة، لا تحميل العاطلين مسؤولية اختلالات سوق العمل.
وتتضاعف خطورة أي تعديل عندما تمس آثاره أصحاب الدخل المحدود والفئات الهشّة، لأن فلسفة الضمان قامت أصلًا على الحماية لا على الإقصاء.
من هنا، يصبح الحوار الوطني الشامل شرطًا لا ترفًا، لان تشريع بهذا الوزن لا يجوز تمريره دون إشراك النقابات، وممثلي العمال، والخبراء المستقلين، ودون كشف واضح للأرقام والدراسات، لأن الشرعية تُبنى بالتوافق لا بالمفاجأة.
ويضاف إلى ذلك رفض رفع الاشتراكات الشهرية، والعمل الجاد على تحسين رواتب المتقاعدين المتدنية، ورفع الزيادات السنوية بنسبة عادلة، والسعي لتأمين صحي شامل دون تحميل المتقاعدين أعباء إضافية.
نعم فان إصلاح الضمان الاجتماعي ضرورة، لكن الفرق كبير بين إصلاح يحمي الناس، وإصلاح يُلقي بالفاتورة عليهم، فالنجاح الحقيقي لا يُقاس بتوازن الجداول، بل بقدرة الدولة على حماية مواطنيها وهم أكثر ضعفًا، لا أكثر قدرة على الدفع.
الغد