حمل خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك في الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة في ثناياه رغبه واضحة من القيادة لتشكيل حكومة برلمانية تنسجم مع الواقع السياسي والشعبي والحزبي بل تعبر عن سقفاً مرتفعاً قياساً بهذا الواقع.
فقد أكد جلالته بأن الحكومة المقبلة ستُشكل من خلال المشاورات والأخذ بالرأي والتوجيهات السديدة من مجلس النواب القادم المعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية، وبانتظار تفعيل الحياة الحزبية وظهور أحزاب عديدة قادرة على تشكيل الحكومات في المستقبل من خلال حضورها القوي في مجلس النواب، وطبعاً هذا يتطلب المضي قدماً خطوة خطوة ضمن صيغه تدريجية يتم خلالها اقتناع المواطنين بأهمية الأحزاب وجدوى العمل السياسي المنظم.
وبالعودة إلى مطالب المعارضة التقليدية وبعض القوى والحركات الشعبية الناشئة التي ظهرت في ظل ما يجري من تغيير وعدم استقرار في المنطقة (الربيع العربي)، سنجد أنها تولي أهمية قصوى ويقبع على رأس أولوياتها وشروطها فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية إجراء تعديلات دستورية وقانونية تُلزم رئيس الدولة باختيار رئيس الحكومة من قبل الحزب الأقوى في البرلمان، وهذه المطالب ربما تكون مقبولة وشرعية من الناحية النظرية إذا كانت غاياتها نبيلة ترمي إلى حكم الشعب ضمن النهج الديمقراطي وتعزيز قيم المسؤولية والشفافية والعدالة وتفعيل أجهزة التشريع والتنفيذ والقضاء والرقابة، لكن السؤال المطروح هنا هل هذه الأهداف والغايات النبيلة هي المقصودة بذاتها في كل هذا الحراك الجاري في الشارع ؟ الأمر الذي لا نستطيع الإجابة عليه في ظل عدم معرفتنا بما هو مكنون في ضمائر المعارضة وكافة البشر، لكننا نؤكد على أمراً مصيرياً في غايته القصوى وهو أن الوطن ينادينا وبالذات في هذه المرحلة الحساسة والخطيرة بأن نمد أيادينا لبعضنا البعض على الأقل لنحافظ على ما ننعم به من امن وامان وتسامح وقيم وانجازات عديدة بسببها حُقنت دماءنا وحفظت أرواحنا وكرامتنا وحرياتنا، واضعاً خطوطاً عريضةً عند حرياتنا التي للأسف تجاوزنا سقوفها الأخلاقية واختلط الحابل بالنابل باعتدائنا على الطرق والممتلكات العامة والاساءة بل التطاول على رجال الامن والمسئولين والآخرين حتى ضيوفنا وقد وصلت بعض التراشقات حدود أولي الأمر منا فهل هذا دين وخلق!! هل هذه أصالة النشامى التي تربينا عليها وهي نفطنا ورأسمالنا الحقيقي، ولنا لما يجري من حولنا من سفكاً للدماء وقتلاً وترويعاً وظلماً وامتهاناً لكرامة الإنسان العربي خير دليل على النعمة التي هي على رؤوسنا لم ولن نراها ورآها ويراها في هذا الوقت تحديداً من هم من حولنا أشقاءً وأصدقاءً.
واقع الحال يشير إلى عدم منطقية شرط المعارضة بسن تشريع ملزم لتشكيل حكومة برلمانية حسب النهج الذي ينادون به في ظل وجود حزب جبهة العمل الإسلامي وروافده المغذية يحتكر الحياة الحزبية ويكاد يكون هو الحزب الأوحد من حيث الفعالية والقدرة على إيصال أعضاء إلى مجلس النواب, كذلك في ظل التركيبة المجتمعية والعشائرية والديموغرافية الساحقة التي تزيد نسبتها أكثر من 85% من كافة أطياف المجتمع ولها ميول وانتماءات للمحافظة على أهدافها ومصالحها سواء كانت سياسية واقتصادية واجتماعية بعيداً عن الأطر الحزبية.
وحتى يتسنى للمعارضة وكافة القوى المعنية المشاركة في مشاورات تشكيل الحكومة القادمة لايجوز لها أن تبقى في الشارع وتعارض دخول مجلس النواب ضمن انتخابات تعهد جلالة الملك بنزاهتها وقد سن لهذه الغاية قوانين وتعديلات دستورية عديدة واستحدثت هيئات انتخابية إشرافية ورقابية مستقلة.
لقد تراضى الأردنيون منذ تأسيس المملكة ضمن الشرعية الدستورية بين الحاكم والمحكوم بأن يكون الملك هو رأس السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية, وتكون القنوات الرسمية والحوار الشرعي البنّاء بين القيادة والسلطات الثلاث من خلال الاشتراك بها, ومن غير المنطقي أن تجري المشاورات لتشكيل الحكومة المقبلة مع قوى المعارضة التي لا تعرف اسلوباً ونهجاً لإسماع صوتها وتنفيذ شروطها سوى الشارع مسرح فرض العضلات للكمرات والفضائيات, فالأجدر بها أن تعبر عن حجمها الحقيقي وتسمع صوتها النابع من إرادتها من خلال مجلس النواب الأردني والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية الأخرى.
إن الحل الأمثل لتشكيل حكومة برلمانية في الوقت الراهن منسجمةً مع الواقع ومطالب الحراك الجاري مهما كان سقفها مرتفع حتى تلك المتعلقة بالملكية الدستورية لا يكون إلا من خلال تشكيل وتفعيل الكتل داخل مجلس النواب، وممكن لقوى المعارضة بعد مشاركتها لاحقاً أن تشكل كتلة مستقلة في المجلس المقبل أو تتحالف مع كتل أخرى مما يتيح ذلك للقيادة اختيار الكتلة الأقوى أو من خلال تحالفاتها مع الغير لتشكيل الحكومة البرلمانية المقبلة، أما الكتل الأخرى فيمكن أن تشكل فيما بينها حكومة ظل وبالتالي نكون من خلال هذه الخطوة المبدئية ضمن مراحل الإصلاح السياسي قد عبرنا عن الواقع حتى أشعار آخر في المستقبل يتم فيه تشكيل الحكومات النيابية على أصولها التي تنادي بها المعارضة لكن بعد نهوض الحياة الحزبية في الأردن ،...فلماذا لا ؟!