سرقت امرأة أثناء فتح مكة، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحدَّ ويقطع يدها، فذهب أهلها إلى أسامة بن زيد وطلبوا منه أن يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقطع يدها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أسامة حبَّا شديدًا.

فلما تشفع أسامة لتلك المرأة تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: (أتشفع في حد من حدود الله؟!). ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، وقال: (فإنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله (أداة قسم)، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)

العدل هو المساواة بين الجميع من المواطنين والمسؤولين أمام القانون مهما ارتفعت المراتب والمناصب (عليّت القوم كما يقولون) او تدنت كحال المواطنين العاديين والضعفاء, والعدل هو الإنصاف، وإعطاء المرء ما له، وأخذ ما عليه. ومحاربة الفساد هو جزء من العدل يتم من خلاله معاقبة المخطيء الفاسد الذي تعدى على حقوق الغير وارجاع الحقوق لاصحابها الشرعيين.

ان مكافحة الفساد واجتثاث المفسدين من المجتمع يجب ان يكون بطريقة عادلة متزنة هادئة، ذلك ان عدد كبير من المفسدين قد ضرب جذوره القوية بأرض خصبة ولن يسمح بخلعه لوحده بسهوله، وسيحاول ان يؤثر على التربة التي مد جذوره فيها الى اعماقها، من جهة اخرى تقتضي أبهى صور العدالة والمساواة النقية بفتح كافة الملفات ومحاسبة الفاسدين واقامة الحد عليهم جميعا دون استثناء، فلا يوجد احدا فوق القانون ولا فرق بين كبيرا وصغيرا، ذلك ان الاقتصار فقط على بعض الملفات والاسماء يعني الامتهان والاستقواء من قبل الاجهزة الرسمية على بعض الجهات دون غيرها، مما يؤدي لغياب العدالة حتى في المحاسبة والقضاء، وبالتالي تتزايد التراشقات والاتهامات في كل الاتجاهات الافقية والعمودية ليس فقط بين المواطنين بل بين المسؤولين انفسهم، الامر الذي سيولد حالة من عدم الرضى في المجتمع ويؤدي الى زيادة عدد وحدة الاعتصامات والاحتجاجات والمسيرات وربما الى فوضى واسعة لا تحمد عقباها.

في أي كيان سياسي(الدول) التي تشكّلت اغلبها خلال القرن الحالي، هناك حاكم ومحكوم (اجهزة حكم مسؤولة ومواطنين رعايا) حيث ترتب على المواطنين جراء العقد الاجتماعي (الدستور) مع الحاكم جملة من الواجبات تجاه الدولة وفي نفس الوقت هناك جملة من الحقوق، وبالمقدار الذي يتم به الإلتزام بهذه المعادلة وبحصول المواطنين على حقوقهم وحاجاتهم غير منقوصة او منتهكة، سينعكس على مدى انتمائهم وطاعتهم واحترامهم للقوانين والسلطات واجهزة الحكم الرسمية والامنية، وسيزيد ذلك من مقدار هيبة الدولة واحترامها لدى الجميع. فالمواطن الذي يقوم بواجباته على اكمل وجه من احترام للقوانين واللوائح ودفع الضرائب ويلبي نداء الوطن في اي وقت وفي اي مسألة فإنه ينتظر ان يحصل على حقوقه التي كفلها له الدستور سواء كانت معيشية او معنوية: في المأكل والمشرب والتعليم والصحة وما الى ذلك، تؤدي به للعيش ضمن حياة كريمة يسودها العدل والمساوة والحرية المسؤولة، تتعزز لديه قيم الولاء والثقة بالنفس والشعور بالطمأنينة الحقيقية على الحاضر والمستقبل.

وفي واقعنا المحلي فإن الفساد أضحى مستشرياً في صفوف بعض المسؤولين في مناصبهم والقائمين على المشاريع الحيوية والاستراتيجية في مواقعهم، وهناك تطاول على اراضي واموال وقوت الشعب، وقد تضاعفت مؤخراً نتيجة هذا الفساد المديونية عدة مرات متجاوزة حاجز الـ 17 مليار دولار، وطبعا لا علاقة للمواطنين بارتفاعها بل حتى انهم لا يعرفون كيف وصلت لهذا الرقم، في حين اصبح عجز موازنة الدولة السنوي مقلقا جدا وتجاوز حاجز الأمان ، الامر الذي انعكس سلباً على ثقة المواطنين باجهزة الدولة ومسؤوليها واخذوا يطالبون بحلول سريعة ووصفات ربما سحرية لمعالجة هذه الاوضاع المتردية.

المطلوب ارجاع كافة الاراضي والمشاريع والشركات ذات الجدوى الربحية التي تم خصخصتها لاسباب واهية غريبة غير مقنعة وفي ظروف غامضة، مثل: الاتصالات والفوسفات وغيرها الكثير الكثير الى ملكية الدولة، ارجاع ما نهب من الأموال ما استطعنا الى الخزينة العامة، وهنا فان دعوتنا لا تقتصر على أن تكون الدولة رعوية، بل ان دعوتنا تنحاز دوما لايجاد وحدات استثمارية ومالية مستقلة في كل قطاع ونقابة ومؤسسة، تكون هذه الوحدات قادرة على ادارة هذه القطاعات والمؤسسات ورفع من مستوى معيشة منتسبيها، وقد تجلت دعوتنا مؤخراً بإيجاد هذه الوحدات الاستثمارية لدى نقابة المعلمين التي أُقرّت خلال العام الجاري ومؤسسة المتقاعدين العسكريين على غرار نقابة المهندسين، وقد ايدنا في غير موضع الاقتراح الذي يدعو لاقتطاع جزء بسيط من الراتب (من5- الى10) دينار، وهذا سيوفر ملايين الدنانير شهرياً في كل نقابة او قطاع او مؤسسة، الامر الذي يمكّنها من إقامة مشاريع كبيرة خاصة بها كالمستشفيات والمدارس والجامعات والمطاعم والفنادق والمرافق الاخرى تدر ارباحا كبيرة ومناسبة لصالحها، لكن في ذات الوقت يجب ان تكون الدولة قادرة باستمرار على القيام بواجبها الاخلاقي تجاه الطبقات الضعيفة والتي تعيش تحت خط الفقر والفقر المتقع ومنها المصابة بالامراض الصعبة والمعاقيين، من خلال رعايتها لهذه الفئات وتوفير سبل العيش الكريم لها، الامر الذي دعت له وكفلته شريعتنا الاسلامية السمحة، وبدون هذه الرعاية ستبقى ضمائرنا تتألم وانفسنا تتعب لما نراه من حولنا من ابناء واشقاء مواطنين يعيشون في كنف الدولة وبحاجة مستمرة لهذه الرعاية لكنهم محرومين منها .

بالعدل والمساواة ومحاربة الفساد وتلبية الحقوق تنطلق الكفاءات وتظهر الابداعات والانجازات وتسمو عناوين الولاء والانتماء لتعبر عن العطاء الحقيقي للوطن وهيبته واحترامه التي ترسخت في الوجدان والضمير وليس الولاء الذي يظهر في بعض الصراخ والزعيق المزيف يستتر خلفه مآرب شخصية انانية ستجلد الوطن في اول هفوة أو كبوة.

yousefaboalsheeh@hotmail.com