قيل في الامثال ما بين العبقرية والجنون شعرة، وجب الوقوف عند حدها حتى لا ندخل حيز الضياع ونُبقي على درجات الأمان، ومن عندنا ما بين الإستثمار الناجح والفساد الناتج عن الخصخصة شعرة أيضاً، فالعبقرية تصبح جنوناً والاستثمار يصبح فساداً اذا تم التطرق له بدون دراية وعلم وتمحص أو النظر إليه وفق أجندات ومآرب خاصة. هذا للأسف ما يحدث حالياً في بلدي العزيز الاردن فيما يتعلق بالاستثمار، فقد اختلط الحابل بالنابل وأصبحنا نجمل القبيح ونقبح الجميل بدعوة محاربة الفساد الناجم عن الخصخصة، لا نعرف الوجه الحقيقي للامور والمسائل جراء كثرة التفسيرات والتأويلات والمنظرّين.

وإن كنّا من طلائع المنادين بعدم التستر على المفسدين ومحاربة الفساد مها كان اتجاهه أفقياً أم عامودياً وحجمه كبيراً أم صغيراً، ذلك ان القضية تصبح من الناحية المنطقية كمن يتستر على من يعتدي ويسرق وينهب أمواله وحقوقه ويعطل مستقبل أطفاله وأبنائه، لكن المسألة هنا في ذات الوقت حساسة وذات بعد استراتيجي تستدعي الروية والتعامل بحكمة واتزان مع ملفات الفساد والخصخصة والاستثمار، تماماً كشعرة " العبقرية والجنون"، بهدف توفير الفرص والبيئة المناسبة لبعض الاستثمارات الخارجية التي نحن بأمس الحاجة لها في هذه الأوقات الصعبة تمهيداً لإنجاحها وترجمتها لمشاريع قائمة وبالمحصلة تعزيز مفهوم الأمن الوطني والاقتصادي ورفع منسوب الثقة لدينا تجاه المستقبل الذي أصبحنا نجهله بسبب الأوضاع الجارية، وبغير ذلك لا فساداً سنحارب ولا استثماراً سينجز وسنخسر على الحالتين.

هناك خلط بين الفساد المتأتي عن خصخصة مشاريع كانت مملوكة للدولة وبسبب الفساد ذاته أضعفت هذه المشاريع ثم جرى خصخصتها بأثمان بخسة حيث أصابها الفساد مرتين ولنا فيما جرى في الفوسفات والبوتاس وقطاع الطاقة وغيرها خير دليل على هذا النوع من الفساد، وهذا يختلف عن الاستثمار الناجح الذي قدمه بعض الأشقاء والأصدقاء في الأردن لتنفيذ أفكار استثمارية وتكاملية وإنشاء مشاريع تنموية جديدة غير موجودة في الأصل.

لقد تحدث سيد البلاد مراراً وتكراراً مبدياً عدم رضاه لما تتعرض له بعض المشاريع والاستثمارات الخارجية الناجحة وعلى وجه التحديد الاستثمارات الخليجية من هجوم لاذع بقصد وغير قصد من أوساط محلية عديدة كان المفترض منها ان تُشَجِع هذه الاستثمارات وتدافع عنها، لا أن تشكك بمصداقيتها وجدواها وتعمل على إعاقة تنفيذها، في الوقت الذي اصبح لا يُخفى حتى على الضرير والاصم من المخلصين بأن جزء كبير منها قدمه الأشقاء لدعم الاقتصاد الأردني وتعزيز نعمة الامن والاستقرار رأس مالنا ومصدر قوتنا والتي يعمل البعض هنا وللأسف على زعزعتها في ظل استغلال حركة الشارع الاصلاحية البريئة لتنفيذ أجندات وتخريب علاقات الاردن بغيرها من الدولة العربية، وما المساعدات المالية التي قدمتها وما زالت تقدمها دول الخليج والتزامها مؤخراً بخطة تنموية تجاه الأردن لمدة خمسة سنوات تبدأ في العام الحالي من خلال تقديم مبلغ 5ر2 مليار دولار لتمويل مشاريع تنموية حيوية في المملكة دون مقابل، الا دليلاً واضحاً على الوقفة الاخوية والاهداف السامية لهذه الاستثمارات.

لا ننكر ان عدد من المسؤولين والنواب والصحفيين قد التقطوا رسائل جلالة الملك بحماية الاستثمارات الخارجية في أكثر من مناسبة، لكن هذه الأصوات المدافعة لم تكن بالمستوى الكافي والشافي في ظل الموجة المستعرة وصور الاستغلال والاتهامات الباطلة التي تتعرض لها الاستثمارات والمشاريع من العقبة جنوباً الى اربد شمالاً.

لا اقول كلاماً في الهواء فالوقائع كثيرة ويحضرني هنا صورة من صور التجني على الأشقاء والاستثمارات الداعمة، ما قام به احد النواب في مجلس الامة بالهجوم على استثمارات استراتيجية لدولة خليجية في مدينة العقبة (اكبر استثمار خارجي في الاردن وسيحول مدينة العقبة الى افضل مدينة سياحية وميناء حيوي رئيسي على البحر الاحمر متفوقة على شرم الشيخ في مصر وجدة في السعودية)، حيث وصف نائبنا الموقر الذي "لا يدري" حكومة الدولة الشقيقة بالشريك الحرامي ، وبعد اجراء لقاءاً صحفية مع هذا النائب حول مدى معرفته بالمشروع الذي هاجمه اتضح انه لا يمتلك ادنى معلومة عنه، ومن عندي اكاد اجزم من خلال متابعة الحديث السطحي لهذا النائب الموقر بأنه لم يزور مدينة العقبة قط واتضح ان هجومه على الاستثمارات وكلامه كان لمجرد الاستهلاك والحصول على الشعبية تحت شعار محاربة الاستثمار اقصد " محاربة الفساد"، فهل هذا يعقل امام استثمار سيكسّر جبال العقبة المحاصرة للمدينة ويحول ترابها الى ذهبا بقيمة تتجاوز الـ 10 مليار دولار!! عفوا سادتي القراء ما فعله هذا النائب شارك به وما زال يقترفه بعض الصحفيين والمسئولين والنواب مع الاختلاف ان اغلبهم يعي ما يقول لكن صور التجني والابتزاز والاتهامات الباطلة ماثلة هنا.

الخوف حالياً هو ضرب البيئة الأردنية الجاذبة بالأصل للاستثمار في ظل استمرار حركات الاحتجاجات والاعتصامات وفي ظل اتهام الاستثمارات الخارجية بالفساد دون وجه حق وغياب الأدلة ، وجراء ذلك فإن ناقوس الخطر أخذ يدق بتسارع وبنغمة :"هروب الاستثمارات للخارج وترك الجمل بما حمل"، والتداعيات التي ستنعكس مباشرة جراء ذلك ليس أقلها إلا انحدار قيمة الدينار الأردني الى مستويات خطيرة.

أَفتَحُ بابك يا وطني وانادي بأعلى صوتي بأسى ومرارة من الداخل والى الداخل لاقول: من لك ولاجيالك القادمة؟ من يحميك من كل هذا التخبط والاستقواء وسهام الكلام السامة على مصالحك وهيبتك؟ كيف لنا أن نعادي مستقبل أبنائنا ومن يحمي الاستثمار والاقتصاد الوطني؟ فما زال العديد يخلط بين الاستثمار والفساد، وقد تهادى الى مسامعي كلاماً مهماً حول عدم ارتياح المستثمرين لما يجري هنا، بل تسربت معلومات خطيرة حول نية بعض المستثمرين العرب الخروج باستثماراتهم المهمة التي تقدر بالمليارات الى تركيا وهي بيئة استثمارية آمنة وأكثر احتراماً وأضع ألف خط عند احتراماً، فما لمسناها مؤخراً من هجوم أعمى غير مبرر وبأجندات مبرمجة على الأشقاء قبل حتى استثماراتهم أمراً يندى له الجبين لأنه بعيداً عن قيمنا وأخلاقنا الأصيلة بل انه لا يراعى اية مصلحة وطنية. وما يعزز هذا التوجه الاجتماع الأخير الذي عقد بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا لفتح فرص استثمارية جديدة وتعزيز التعاون الاقتصادي القائم بينها.

رغم ذلك كله فكلي ثقة وأمل بوطني ليتدارك هؤلاء، فالوطن مليء بالأصوات المنتمية الواعية التي تدافع ولن تكل او تمل ولن تترك الساحة لاصحاب الاجندات او من هم لا يعلمون وسنقول لأشقائنا قبل استثماراتهم نحن منكم واليكم مصيرنا واحد، فلا تتركوا ساحتنا من اجلنا لغيرنا حتى لو كانوا منّا في الداخل، نحن الذين نحبكم ونعرف معنى تكاملنا معكم ووقفاتكم معنا، حينها ستكون ارادتنا المشتركة اقوى من كل المشككين والمتربصين، حقا سننتصر على اعدائنا في الداخل والخارج وستصل سفينة الاردن الاستثمارية التي ارادها سيد البلاد الى بر الامان ويعم الخير على الوطن والمواطنين، وتبقى المملكة واحة الامن والامان ومصدرالاحترام لكل العرب المخلصين.

yousefaboalsheeh@hotmail.com