facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين يغدو رثاءُ الميّتّ تجارةً و صنعة


هشام غانم
19-01-2008 02:00 AM

الرجل الدمث و الكريم و المرِح و المتسامح، المضياف القلب و النفس، و الداخل في عقده الخامس مِنْ غير تلكّؤ أو خوف، الرجل هذا، طرح بالأمس حزمةَ أسئلة كثيرة و عسيرة، و سلّطّ أسئلته هذه على مجموعة مِنَ الرجال (المضيافي القلب و النفس) كذلك. و مناسبة تلك الأسئلة كانت وفاة الفتى اليافع حكمت قدّورة، الذي قُتِلت نفسُه بغير نفس أو فساد في الأرض، قبل عدّة أيام، في حادثة سير فظيعة.و دار مدارُ أسئلة الرجل الدمث و الكريم على الفرق بين موت و موت؛ فهو (الرجل) كان قد فقد ابنه قبل بضع سنوات في حادثة سير، كذلك. فسأل، واجماً و ساهماً: علامَ كلّ هذه الضجّة و الجلبة و الإطناب حول مصرع الشاب قدّورة؟ أهو أوّل فتىً يقضي في حادثة سير؟ أروحه أكرم مِنْ أرواح المواطنين الذين يقضون يوميّاً في حوادث سير و حوادث أخرى؟ أفليس البشر، كلاً و جميعاً، متساوين أمام الموت؟ و ما بال الدولة و أجهزتها و رموزها منخرطة في التجييش و التحشيد و السعي في جلاء غموض الحادثة و الكشف عن مرتكبها؟

و الحقّ أنّ الرجل الدمث و الكريم، على رغم إلحافه في السؤال، حارَ جواباً، و لبثت أسئلته معلّقة في الفراغ، ممتنعة مِنَ الإجابة. و سوف نحاول، هنا، الإجابة عنها، و طرح أسئلة جديدة إنْ أمكن.

فبادئ ذي بدء، ينبغي القول إنّ الموت هو أقوى حقيقة في هذا الكون، و هي حقيقة مِنْ طراز صاعق، مفاجِئة أبداً، على رغم تكرّرها منذ الأزل، تأتي دائماً فاجعة و مباغِتة، كأنّها «تحدث» لأوّل مرّة. و مِنْ أجل ذلك، فالموتُ لا «يحدث» و حسب؛ بل «يَحْضُر»، (البقرة/133)، و «يلاقي»، (آل عمران/143)، و «يتوفّى»، (النساء/15)، و «يدرك»، (النساء/78)، و «يجيء»، (الأنعام/61)، و «يأتي»، (إبراهيم/17)، و «يُذاق»، (الأنبياء/35).

و لكنّ هذا كلّه، يخصّ أهل الميّت وحده، و إلى هذا الحدّ أو ذاك، يخصّ أهله و صحبه؛ غير أنّ ردود الفعل على «الحدث» إيّاه، مِنْ مقالات و تصريحات و إشارات (معظمها عامّيّ) لم تأتِ مِنْ أهل الميّت و حسب، بل جاءت مِنْ أناس لا يربطهم بالميّت رابطٌ، و فوق ذلك، جاءت ردود الفعل تلك، مجيءَ سيل تكسّرت موانعه، و أنكرتْ على المتحفظّين تحفظَّهم. فنهض كلّ ذلك قرائنَ على ازدواجيّة و عقم و نفاق لا يستعصي على الرسم و التثبيت.

و التعليل المتماسك (أو الذي نحسبه متماسكاً) للازدواجيّة و العقم و النفاق، هو أنّ الموت يدرك، يوميّاً، عشرات المواطنين، في حوادث السير و في غيرها، مِنْ غير أنْ نسمع كلمةً واحدة حول ذلك، و مِنْ غير تسيير «مسيرات» تندّد بتلك الحوادث. و ليس هذا القول انتقاصاً ممّا جرى و يجري؛ و لكنّه صرخة ضدّ التفرقة بين موت و موت، فالبشر متساوون أمام الموت كأسنان المشط (حين كانت أسنان المشط «متساوية»!). و على هذا، أو قريباً منه، يسعنا القول إنّ المبالغة و التهويل في التنديد بمصرع المرحوم قدّورة، و على هذا النحوّ الغريب و المُرائي، هما (المبالغة و التهويل) ضربٌ مِنَ الظلم و العسف لمواطنين كثُر فقدوا أحباباً و أعزّاء على قلوبهم؛ و ذاك بأنّ أسوأ أنواع الظلم هو العدالة الحمقاء.

و كائناً ما كان الامر، يبقى أنّ ما جرى و يجري، أثناء و غداة مصرع المرحوم قدّورة، يعدّ إهانةً و متاجرةً بالموت و خفره و رهبته؛ و آية ذلك، أنّ المرحوم بين يديّ ربّه الآن، فهو لن يستفيد شيئاً ممّا جرى و يجري، فهو لن يعود إلى الحياة مِنْ طريق مقالات الرثاء و مسيرات الوفاء، و إنّما المستفيد مِنْ هذا الأمر هم مَنْ يتولّون التجييش و التحشيد و الخَطابة حول موته؛ فهُم يتوسّلون بالخَطْب الجلل لتحقيق مآرب أكثرها زائف، و أقلّها محقّ. فمَن المسؤول عن طباعة صور المرحوم و عرضها على قوارع الطرق و المحالّ التجاريّة؟ و مِنْ أيّ جيوب اقْتُطِعت الأموال التي استُخدِمت في الحملة الدعاويّة التي رافقت مصرع المرحوم؟ و ما هي الجدوى مِنْ تحويل موقع الحادث إلى مزار و دعوة الناس إلى السعي فيه و الحجّ إليه و الطواف حوله؟ أليس هذا ضرباً مِنْ تحويل المكان إلى مشهد صنميّ و وثنيّ؟ أفليس كلّ هذا سقوطاً أخلاقيّاً راعباً و رياءً ظاهراً و مريعاً؟

بيد أنّ الأسوأ مِنْ كلّ ما عداه هو الافتئات على المرحوم و صبّه في قالب فولاذي مخاتل و مراوغ؛ فالمقالات التي تناولت الحدث آثرت أنْ تنسب له وقائع و أحوالاً لم تحدث و لم تقع، لدرجة أنّ الأمر وصل بالبعض إلى تزوير توقيت الحادث؛ لإضفاء شيء مِنَ الميلودراما على الحدث. و هؤلاء المزوّرون يحسبون أنّ الضحيّة لا تكتسب جدارتها كضحيّة إلّا إذا أضافوا لها الصفات الفروسيّة. و الحقّ أنّ هذا السلوك يغرف مِنْ مَعين غيبيّ و أسطوريّ عتيق، كان شائعاً عند بعض القبائل العربيّة القديمة، فهذه، حين موتِ أحد أفرادها، تنسب له صفاتٍ و «كرامات» و بطولاتٍ و وقائع غير موجودة؛ فالقَصَص البطوليّ و الملحميّ يقتضي أنْ يكون القتيل فارساً مغواراً و نبيلاً، يتسنّمّ صهوة فرسه، و يستّلّ سيفه مِنْ غمده، و يُقطّع رؤوس الأفعى المتطاولة، و يُجندل الغولة المتربصّة. وبغير ذلك، لا تستوي الضحيّة ضحيّةً.

و هذا كلّه، و غيره مثله، في الارجح، ليس حبّاً بالضحيّة، بقدر ما هو حبٌّ و نرجسيّة في مَنْ يتولّون النطق باسم الضحيّة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :