facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الكشافةُ .. الغرسةُ الأولى في أيامِ الزمنِ الجميل


أ.د. خليل الرفوع
09-03-2019 01:03 PM

أقرأُ قصيدةَ عبْدَةَ بن الطبيب بُعَيْدَ مشاركته في فتوحات العراق وانتصار العرب في موقعة القادسية التي أنهت دولة الفرس شرقًا ، ولم تشغله نشوة النصر وخزائن كسرى عن حنينه إلى البادية ، ومطلع قصيدته تلك التي أعدُّها من عيون الشعر العربي كله : " هل حبلُ خولةَ بعد الهجرِ موصولُ " ، فيأخذني أحد أبياتها إلى مرابع الذكرى وأيام الزمن الجميل ، يقول فيه متذكرًا صباه الآفل :

ولِلأَحِبَّةِ أَيَّامٌ تَذَكَّرُها ولِلنَّوَى قبلَ يومِ البَيْنِ تأْوِيلُ

ويحملُني الزمن عبر معارج الشجى إلى غرسة الرجولة الأولى في الحياة وهي : ( الكشافة) التي ألفيتُنِي يومذاكَ أحدَ أفرادِها في الصف الثالث الإعدادي ( التاسع الآن) ، وبقيتُ فيها ثلاث سنينَ طالبًا نشيطا فمساعدًا لعريف الطليعة ثم عريفا لطليعة الفاروق التي كانت من أنشط الطلائعِ ، وختمتُ الحياةَ الكشفية في أن أكون بعد منافساتٍ واختبارات عسيرة اجتزْتُهَا في وزارة التربية في عمان أنشطَ طالبٍ في مدرسة بصيرا الثانوية وتربية لواء الطفيلة فتربية محافظة الكرك ، وكانت الطفيلة يومئذٍ أحدَ ألوية الكرك عام 1985م ، وكانت الجائزة رحلةً إلى ضفافِ بُحَيْرَةِ مرْمَرَةَ على البحر الأسودِ في تركيا عشرين يوما ، وبها عرفت أن هناك دنيا وحياةً وعالمًا غير قريتي بصيرا التي تمددَتْ في ذاكرتي أرضًا وسماءً فأُحْصِرْتُ في شعابِها ، وقد مثل الأردن في تلك الرحلة خمسة طلاب أذكر منهم رامي شاكر العزب عن السلط ، ونضال الحمادين عن معان ، وإبراهيم الدويري عن إربد وإبراهيم ... من الزرقاء ، وقد كان اللقاء تجمعًا كشفيا عالميًّا بتنظيم من الهلال الأحمر ، فكانت الرحلة قبل التوجيهي مكرمةً وبوابةَ الفتح الأول في أرض الروم ، ومسرى فتنة الروح ، ومعراجَ طفولة الجسد ، والخيطَ الأبيضَ الذي تولَّدَ في عقل الفتى من كهفِ خيطه الأسود.

أيامُ المدرسة أجملُ عهودِ الحياة ، وأكثرُها صبابةً ووجدًا أيامُ الكشافة ، إذْ يقسم الطلبة إلى طلائع ، كلُّ طليعة تتكونُ من خمسة أفراد أو ستة ، ويبدأ عمل كل طليعة من اليوم الأول لتسجيل الأسماء ، ولهم لباس خاصٌّ كان أيامنا بنطالا سكنيًّا وقميصًا أزرقَ سماويًّا ، وكل صباح مدرسي تنهض طليعةٌ برفع العلم في طقوس حركية منظمة تثير انتباه جميع الطلبة والأساتذة ، وأغلبها حركات عسكرية حفظناها عمليًّا في التدريب الأول ، وتزداد النشاطات الكشفية بدءًا من توقف الشتاء ودخول فصل الربيع إذ تبدأ الرحلات الخلوية إلى مناطق بعيدة عن القرية ، فيقوم قائد الكشافة ومساعدوه من المعلمينَ بالانطلاق قبل الطلبة المقسمين حسب طلائعهم ، فيضعون علاماتٍ وأسهمًا على الأرض وفي شقوق الصخورعلى امتداد طرق وعرة ملتوية ، وعلى الطلبة الاسترشاد بها للوصول إلى نقطة النهاية مكان التجمعِ ، وأجملُ ما في الكشافة المخيمُ الكشفي الذي يقام نهاية كل عام في منطقة قريبة من المدرسة ، ويعيشُ الطلبة في خِيَمٍ على شكل دائري تتوسطه سارية يُرْفَعُ عليها علما الأردن والكشافة ، وعليهما حراسة دائمة ليلا ونهارا ، وكان التحدي بين الطلائع على أشدِّه ، وأخطرُه أخذُ العلمين من على السارية خِلْسَةً أو في غفلة الحرس ، فيعدُ ذلك تقصيرا يستوجبُ عقوبة من القائد ومساعديه ، ويبدأ النشاط صباحا برفع العلم ثم التفتيش على الطلبة وخيمهم ثم الفطور فالمحاضرات العلمية الثقافية ثم وجبات الغداء التي غالبًا ما تكون (مقلوبة أو مكمورة) ، وهما الطبختان اللتان يتقنهما الطلبة بالوراثة الكشفية ، ثم استقبال الضيوف والمسابقات والتحضير لليلة السَّمَرِ التي تبدأ بُعَيْدَ صلاةِ العشاء إلى ساعة متأخرة تبدأ بتلاوة آياتٍ من القرآن ، ثم مشاهد تمثيلة مسرحية متنوعة أغلبها ترفيهي تثقيفي يعده الطلبة أنفسهم ، وفيه تظهر مواهبهم في التمثيل والغناء والتقليد والمصارعة ، ويشهدُ ليالي السَّمَر أبناءُ القرية الذين ينتظرونها في مواسمها كل عام ؛ فيتحلقون حول موقد أشعلت نارُه في بدءِ الحفل ، وهي ليالي العمر بالنسبة للكشافة ، وبعد ليالٍ ثلاثٍ يُنْهَى المخيمُ عصرًا بحفل وداعي انضباطي حزين مؤثر لفراق صحاب عاشوا إخوةً معا أحلى الساعات .

الكشافةُ تزيد في الذاكرةِ الشوقَ والحنين لأيام خلتْ ، لكن تذكُّرَها يبعث النفس من خمودها لتستقرَ على راحة العمر متوازنةً بين ماض لم يعد إلا حُلُمَا وبين حاضر قد فتك به الزمنُ بُطْئًا وسكينة ووقارًا ، نعم إنها الغرسةُ الأولى في مدارجِ الرجولة ؛ لأنها مفتتحُ الذاكرة ومهدُ عنفوان الشباب وانبلاجُ مثاقفة الآخر ، ولأنها انضباط المد والجزر في حركية الصعلكة المتوهجة ، فالكشافة في أساسها حركة شبابية تربوية تطوعية عالمية غير سياسية ، هدفها تنمية الشباب بدنيا وثقافيا ، ويتضمن قَسَمُهَا أن يبذلَ الفردُ جهدَه بصدق نحو الله ثم الوطن وأن يساعد الناس في جميع الظروف ، وقد تعلمنا من الكشافة الكثير من القيم والأخلاق والجرأة ، إن كان على المستوى البدني النفسي أم على مستويات أخرى ، كالنظافة والاندماج وتنمية المواهب وقدرة التحدي والاقتداء بالكبار واكتساب مهارات القيادة والعمل الجماعي والتفكر بقدرة الله وغيرها من الموجبات .

ذلك زمن قد ولَّى وبات ذكرياتٍ تتهادى كلما اُسْتُدْعِيَتْ للبهجة والفرح ، كان زمنًا قد خلا من موبقات هذا الزمن وقحطه العاطفي وتعقيده الفكري ، كان الحياءُ سمةً والخجلُ سمتًا والطيبةُ أصالةً والشبابُ رجولة مبكرةً ، لم يتغير الزمن بل تبدلتِ القيم واَنْتُـزِعَتِ البركة من القلوب والنقود ، وتحولت العائلة بتآلفها إلى فردية مفرطة في أنانيتها وتوحشها ، لا ندري هل أقفرتْ مدارسُنا من الكشافة أم الكشافة أقفرت من مدارسنا أم أقفر الوطن منهما معًا ، فلم يعد للزمن جمالُه وعبيرُه .





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :