يصبح تفهم الرأي الآخر في الأردن صعبا عسيرا عندما نسميه اصطلاحا "المعارضة". ولا يتقارب مع المفهوم العربي المعاصر للمعارضة سوى المطاولة. ويتم استعمالها في بلدنا مصغرة من أجل تقزيمها كي تصبح من أخوات المناكفة. وقد يتم استخدام اصطلاح معارض ومعارضة لتصفية حسابات شخصية, عن علم وقصد, نكاية بالخصم في أمر ما, بوضعهم في خانة معاكسة للولاء. ولما كان معكوس الولاء لله والوطن والقيادة تعني الخيانة, فيتجنبها السوي الرشيد, لإدراكه أنها جريمة يعاقب عليها القانون وشرع الله والناس أجمعين. ولما كانت الخيانة في كل الأعراف شائنة, نتوقف عندها, ومن ثم نتعوذ من شرها بالمعوذات.
في أغلب ظني أنه لا يوجد في الأردن معارضة, بالمعنى الدستوري للمعارضة المنظمة, على شكل أحزاب ذات برامج مدروسة، وبدائل مقنعة. ولكن توجد ندوات ومحاضرات وتجمعات لنخب وصالونات سياسية, تجتمع لتتبادل الحديث في أمسيات وسهرات ودية يتخللها ضيافة كريمة, تنتهي إلى وعد بلقاء آخر, والعودة لما تم طرحه وتداوله في السهرة السابقة ! والحديث في معظمه مثالي لنماذج نظرية اغلبها من الغرب الديمقراطي, تتوافق فيه كيمياء بعضهم، وتختلف. يتبعها مراجعات ونقد فيما بعد السهرات في اليوم الذي يليه. قد يصح القول إنه يوجد عندنا رأي آخر فردي أو جماعي, لكنه إما متوتر أو تم توتيره بسبب عدم توفير المساحة الكافية لاستيعابه, أو لعدم قدرته على تقديم نفسه كرأي وطني بديل واضح التطبيق.
قد تكون أدوات الديمقراطية, عصية على الفهم أو الممارسة في مجتمعنا, ابتداء من الأسرة فالعشيرة فالمدرسة ومن ثم الجامعة، وحتى مجالس الإدارة والمجالس العليا في أعلى مراتبها. والسبب, أنه لم يتم تعريف الرأي الآخر أنه رأي وطني بديل, وحالة صحية ضرورية لها احترامها, وأنه طرح يمكن وضعه على الطاولة للمناقشة و الإغناء. وعليه, هل ما تزال الديمقراطية منتجا غريبا مستوردا لم نعتد عليه, ولم نستطع توطينه كما ينبغي ؟ الجواب في مطلقه نعم ! ومن ثم، فعلينا الاعتراف أن تطبيقه في مجتمعنا, صعب ولكن ليس بمستحيل. فنحن لم نتقن الصبر على متطلباته, مقارنة بالحالة الشمولية, السريعة النتائج, المجربة ردحا من الزمن واعتدنا عليها ! إذن, في الحالة هذه, لا مناص من نموذج للتنمية السياسية والديمقراطية تنتج محليا في بلدنا, لتطبيقها بالفعل وقد حاولنا مؤسسيا لعقد من الزمن !.
الحقيقة غير الغائبة عن مجتمعنا هي, أن الشعب الأردني من أكثر المجتمعات تنمية في معرفة آراء بعضه بعضا, ولديه من الوشائج المتعددة من النسب والمصاهرة والصداقة, ولعلاقة الزمالة في مراحل الوظيفة والدراسة والغربة وإن بعدت, مثل غيره من المجتمعات, وعلينا إدراكها. وله من مركبات الكرامة الموروثة والمحدثة, والتمسك بوجهة النظر إلى حد القداسة, يصعب تغييرها. أما أخباره فهي متناقلة بنسيج العلاقات, في مجالسه وتجمعاته، في مضافاته وجمعياته, ولا تخفى عليه خافية من أمسه.
ومجتمعنا الأردني, يتناقل الأخبار للتنفيس والخروج من بعض همومه في مآتمه, وترويحا عن النفس في أفراحه. وهذه صفة حميدة قد لا تتوفر للكثير من المجتمعات حديثة النشأة. وفيه من الشخصيات والذوات الاعتبارية من يقام لهم ويقعد, ويحترم رأيهم وخبراتهم ! ويعلم قائد البلاد, علم اليقين, كما يعلم أبناء الشعب الأردني كافة, أن أصحاب الرأي الآخر هم من ركائز هذا المجتمع وعيونه المبصرة. فمنهم من كان رئيسا للوزراء ولديه الخبرة والبصيرة, ومنهم من كان وزيرا أمينا فاعلا أو عينا أو نائبا حصيفا, أو ضابطا في الجيش العربي. ومنهم المختصون في العلوم الأساسية والتطبيقية و القانونية والسياسية كما الاقتصادية وغيرها. ومنهم النقابيون وأصحاب الفكر وأساتذة الجامعات والمدارس والطلبة وفئات الشعب العاملة. وكلهم مدركون, يقولون نعم للقانون وسيادته, ونعم لحرية الرأي والتعبير, الذي تم إيصالهما إلى عنان السماء في أردننا الحبيب, من لدن قائد البلاد, لجعلها محلقة, وعليه يجدر بنا الصبر وعدم التشكيك.
لقد أحسن دولة سمير الرفاعي التعبير ذات مرة, عند زيارته لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردني بقوله, من غير المقبول أن تبقى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون مقتصرة على لون واحد, وقد قصد أنها مغلقة دون تيار مهم حيوي وهم أصحاب الرأي الآخر, والمقصود بهم المعارضة الذين يتم استبعاد رأيهم ومشورتهم. ويبعدون أحيانا عن الظهور في وسائل ألإعلام ،وبخاصة الظهور على الشاشات الفضائية ونواصي الإعلام.
من نافلة القول إن أية حكومة تحتاج إلى الرأي الآخر. ربما ليكون بديلا لما يجتهد به وزراؤها ومستشاروها وأجهزتها الرسمية لتسير المركب في الاتجاه الأنسب. إن التمسك بوجهة نظر دون غيرها أو ربما التشنج في التصريح من قبل بعض الشخوص الحكومية أو في الإدارة الإعلامية, قد تؤدي إلى رد فعل أيضا من قبل أصحاب الرأي الآخر, يجهرون به بوسائلهم المتاحة, التي سرعان ما تتسرب أخبارها هنا وهناك, ويتم نقلها وتأويلها وربما تهويلها. أتمنى أن لا يحبط الرأي الآخر و أن لا يوصف بما لا يليق, فهو من صنع محلي وليس مستوردا, كما يروق لبعض الأقلام نعته ووصفه. أو أن لدى أصحابه بطالة سياسية, مدفوعين بأجندات خارجية, كما يكتب بين الحين والحين من البعض, ليغيظ الناس بعضهم بعضا. فعلى الراشدين أن يعتبروا أصحاب الرأي الآخر من نسيج هذا البلد ومكوناته الثمينة أولا ! وبغير هذا لا يخدم الوطن, وقد يبطئ عجلات التنمية السياسية, وقد يؤدي إلى إشكالات وتبعات نحن في غنى عنها، وبخاصة، ونحن نقترب من استحقاق انتخابي, تم الإعلان عن التوقيت له قبل آخر عامنا هذا, ويسبقه قانون انتخاب شامل يرعى العملية الانتخابية برمتها, قد يصدر قبل آخر أيار من عامنا هذا, ننتظر الإفراج عن محتوياته بكل صبر وترقب.
وعليه, فتوصيتي المتواضعة في المقال, هي للكبار: "أيها الكبار في المشهد" أرجو أن تنتبهوا جيدا" لمن يحاول إدخال المعارضة عنوة من عنق الزجاجة الضيق, وترشدوهم بالحسنى كي يعودوا عن خطابهم المألوف ! فالخروج من عنق الزجاجة صعب, وفيه تكسير للزجاجة التي لا تحتمل الإطالة ولا المطاولة, و فيه تلويث لمن تم إقحامهم, عنوة فيها, وهي في النهاية خسارة كبيرة للوطن ومكتسباته.