facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حنين يكذب!


د. يوسف عبدالله الجوارنة
03-04-2021 07:02 PM

إلى الصَّادقين في الحنين إلى الأوطان ومساقط الرؤوس، المُغتربين الذين هَجَرهم الزَّمان فهاجروا، ويَحْدوهم للعودة أمل، الضَّاربين في عمق التأسّي لا تُفارق مُحيَّاهم بَسْمة، الواقفين على طلول الماضي يَقْطعون الزَّمن؛ عَصَرَهم الألم، تقطعت حناياهم، تَجعَّدت وجوههم، بانت عروقهم، فاتَهم القطار...- إليكم إخواني هذه اللوحة؛ نرسم صوركم في متاحف المجد والخلود.

أمَّا الذين كذبوا على أنفسهم -إلَّا قليلًا منهم- وصدَّقهم الناس؛ يُظهرون الحنين من (إربد) و(عَمَّان) و(العقبة)، إلى القُرى والأرياف التي سقطوا فيها، يتماهون مع طبيعتها الخلَّابة، يَحْتسون القهوة في ظلال البيوت القديمة، يتنسَّمون الهواء العليل فتشفى نواظرهم بروائع الجمال، لا يُصيبهم ظمأ ولا مَخمصة ولا علَّة ولا يأس ولا قنوط...- فإنَّ صوركم شاحبةٌ ليس لها مكان في متاحف، فضلا عن ذاكرة النَّاس ووجدانهم.

إنه بقدر ما يَهزُّني منظر "البلُّوط" و"السّنديان"، والأحراش الجميلة في الأرض الجميلة...، تؤلمني المشاعر الكاذبة -في التآخي معها ورسم ظلالها- في هذا الزمن الرديء.

ويبدو أنَّ اللوحة المرقون فيها: "وحين افترقنا، تَمنّيتُ سوقًا؛ يَبيعُ السِّنين .. يُعيد القلوب .. ويُحْيي الحنين"، وإذْ نشرتها في صفحتي (Facebook)، قصدتُ منها الإشارة إلى صورة المغترب في وطنه، ذلك الذي يمطرنا بوابلٍ من مشاعر الحبِّ والحنين إلى قريته وريفه، وما يَعتلج في صدره -في المدينة- من البعد والفراق، وهي قريبة منه في حناياه وضلوعه. وفيها إشارة إلى سلوك خاطئٍ نُمارسه، لأنَّ الصِّدق يقتضيك أن تعيس في جوهرة الحنين نفسها، ولتكن القرية هناك سيّدة القرى، ولتكن الأرياف ثمَّة لا شيء قبلها ولا شيء بعدها، ومِن أرض الحدث اكتبوا إلى الطُّيور المهاجرة: هذه قراكم وأريافكم فيها كلُّ شيء جميل؛ فلا تنسوها، ولتكن قطعة منكم، غرِّدوا لها بأصواتكم العذبة ولحنكم الجميل، اذكروها ولا تنسوها وقد عشتم لحظات فيها حلوة أو مرة...!

إذن، فهي الأيام مع قسوة فيها، علَّمتنا حبَّ الأرض والوطن، والصّدقَ في المشاعر، والشَّجاعةَ وعدمَ الخوف، واستقلالًا في شخصيّاتنا لا نكون ظلًّا لأحد، والعطفَ على الحَجَر والشَّجر وسائر الحيوانات الأليفة التي عشنا معها وعاشت معنا...؛ كلُّ شيء فيها جميل إذا نظرنا إليه بصدق.

هذه اللوحة، هيّجت أحد الأصدقاء، وراح يُغريني في قريتي (عنبة) التي وُلدتُ فيها، ونشأتُ وترعرت، قال: "ستبقى قريتي الشَّيء الجميل فينا؛ نمشي في حاراتها، ونأكل "الخبيزة" و"المُرّار" و"الخُرْفيش" و"العِلِت" و"الخَرْدَلَّة" و"القُرّيص" و"الحُمّيض" من أرضها، وسنقطف "البلّوط"، و"الزّعرور" من (الخارجة)، و(عراق الطبل)، و(الرَّقبة)، وسوف نمشي إلى (جبثون) و(النقيع) و(عديس). نعم أخي يوسف، لم أر أجمل من قريتي؛ فيها الراحة التي لا تقدر بثمن. سلامي إلى أهلها الطيبين البسطاء الكرام".

نعم، يثير فيَّ هذا البوح الجميل –يا صديقي- إحساسًا بقيمة المكان وأهميته في إنبات نوازع الخيريَّة في الإنسان؛ فإنَّ إنشاء علاقة حميمة بين الشَّجر والحَجر، والنَّبات والحيوان، والجَبل والوادي، ومع أمواج القمح نَتراقص على أنغامها الجميلة، وإلى شجرة حنَّت عليك في يوم قائض، وفي يوم ماطر تُدغدغ المياهُ الزّاهية حَجَراتِ الوادي، ومع أترابكَ تَتَمايلون طربًا في (عُرْس)؛ إكرامًا لعينِ جاريةٍ ترمقكم من قريب؛ ضربتم الأرض ثلاثًا، ونَزلتم وصَعِدتم، لأجلِ عيونك يا (...)، وهناك فرشتم الأرض (جددًا) بيضًا تدفعكم إلى العلوّ والسُّمو. ومع الفقر صارت الطُّيور تخافنا لأنَّنا وأدناها في أعشاشها، وعند جِران الماء انتظرناها فقتلناها عطشى، وأنِسَتْ بالفِخاخ المنصوبة لصيدها، فابتعدت عنها غرثى...الخ.

كلُّ هذا وغيره يَدفعك إلى حبِّ المكان وعِشْقه ورَسْمه صورة في الذَّاكرة لا تنمحي. وأمّا أنتَ صديقي، فلعلَّك من القلَّة الصّادقة؛ قلتَ ما اعتلج في صدرك من صدق الحنين ولواعج الشَّوق؛ فلتعشْ روحُك في ظلال المكان، ولتحلّق عاليًا في السّماء، تؤنسك الطّيور، وتداعب عيونك شمسُ الغروب.

ولستَ بهذه الرّوح المحلّقة في ملكوت الجمال؛ جمالِ المكان وروحِ الإنسان، لستَ تتغيّا هجرة تبتعد فيها غريبًا عن الوطن؛ فإنَّ الغرباء ليسوا أصلاء في البلاد التي يهاجرون إليها، وإنّما يشعرون فيها بإنسانيَّتهم ما دام فيهم ضمير مستتر تقديره "موجود"، ويُحترمون على قَدْر ظهورِه وخفائه؛ وإلَّا فإنّما يكتفون فيها بأكلٍ وشربٍ وجمعِ فلوس.

و"الغربة" غدت اليوم فضفاضة تحتمل وجوهًا من التأويل؛ فقد تجد نماذجَ من الناس شوَّهت صورة الوطن، فأضحى النّاس كأنَّهم غرباء فيه يَضيقون به ويَضيق بهم، لكنَّه الحضن الدافئ الذي يُؤويهم في لحظة من لحظات الصِّدق، يَعْلون به فوق الطامعين المُتربّصين المُرْجفين.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :